توقيت القاهرة المحلي 19:11:28 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الخروج من العزلة الأخطر!

  مصر اليوم -

الخروج من العزلة الأخطر

بقلم: حسين شبكشي

هل كان سيلقى جبران خليل جبران نصيبه نفسه من القبول والشهرة والانتشار لو استمر في الكتابة باللغة العربية وبقي في لبنان، أم أن قرار انتقاله لوطنه الجديد بالولايات المتحدة والكتابة باللغة الإنجليزية كانا السبب الفارق فيما حدث له من نقلة نوعية لافتة مهمة جداً؟ هذا السؤال يتكرر في حالات كثيرة مماثلة ومشابهة، مثل الكاتب التشيكي العملاق ميلان كونديرا الذي انتقل للعيش بالعاصمة الفرنسية باريس واختار الكتابة بلغتها، وخالد حسيني ابن كابل في أفغانستان الذي انتقل للولايات المتحدة وكتب من هناك باللغة الإنجليزية، وأيضاً هناك جومبا لاهيري الكاتبة البريطانية - الأميركية الآتية من أصول هندية التي اختارت الكتابة باللغة الإيطالية، وهناك الروائي المغربي الطاهر بن جلون الذي انتقل لفرنسا وكتب بلغتها، وإيليف شافاك التركية التي اختارت بريطانيا للعيش فيها وأن تكتب بلغتها، وصمويل بيكيت الكاتب الآيرلندي الذي اختار فرنسا موطناً وتبنى الكتابة بلغتها، وجوزيف كونراد الكاتب البريطاني الذي اختار الكتابة باللغة البولندية، وأمين معلوف ابن لبنان الذي استقر في فرنسا واختار الكتابة بلغتها، والعملاق التشيكي فرانز كافكا الذي استقر في ألمانيا وكتب حصرياً بلغتها.
هذه مجرد أمثلة محدودة جداً للهويات اللامحدودة في العالم. تذكرت هذا الشيء وأنا أتابع ردود الفعل الحاصلة تباعاً مع موقف أنصار الشعبوية السياسية والتيارات العنصرية التي تختبئ تحت غطاء الوطنية... في عالم واسع الآفاق، يخرج من إحدى مناطقه فيروس يدمر بلاد العالم، ليتلهف العالم بانتظار لقاح ينتج ويورد لإنقاذه من هذا الوباء المدمر، لن يسأل العالم عن «أصل» مخترع اللقاح، ولا يهمه لون بشرته ولا دينه ولا طريقة تفكيره. في ظل أفول عصر الأفكار الكبرى التي جاءت بالشيوعية والاشتراكية والنازية والرأسمالية، لن يكون مقبولاً أن تأتي فكرة بلا منهجية أخلاقية، هدامة للقيم المشتركة، مثل ما تقدمه الشعبوية، بصفتها طرحاً سياسياً عالمياً جديداً.
الاقتصاد، كما جرت العادة، هو الذي يصنع السياسة ويحدد مساراتها. بريطانيا اليوم تدفع ثمناً باهظاً لاستجابتها للتيارات الشعبوية التي كلفتها ثمن عضويتها بالاتحاد الأوروبي، والآن هناك خطر وتهديد جدي بأن تفقد اسكوتلندا من مملكتها المتحدة بعد تواتر أخبار جدية عن قرب حصول استفتاء شعبي على ذلك، وبالتالي قد يكون ذلك تمهيداً خطيراً جدياً للتحول التدريجي من بريطانيا العظمى إلى إنجلترا الصغرى. والشيء نفسه ممكن أن يقال عن حقبة دونالد ترمب في الولايات المتحدة التي أدت إلى شروخ وتداعيات بينية في قاعدة المجتمع الأميركي نفسه. والأعراض المؤلمة نفسها يجري الحديث عنها في الأوساط المجتمعية في البرازيل، بسبب سوء إدارة الأزمة الصحية والخطاب السياسي المتطرف الذي تم تبنيه في العهد الحالي.
في ظل اقتصاد معولم، يعتمد بشكل كامل مطلق على حرية حركة الأفراد والأفكار والأموال بشكل عابر للحدود والقيود، يكون الحديث عن الجدران العازلة، سواء أكانت فعلية أم فكرية، ضرباً من العنصرية القبيحة والجنون الفعلي. العالم ليس لوحة رسمت بالأبيض والأسود، وتم تقسيم سكانه بين أناس يشبهوننا وأناس آخرين وجبت معاداتهم... العالم كتلة من الألوان الثرية التي تكسر النمطية وتوسع الآفاق، ولكل هذه مزايا لا يقدر عليها من كان في قلبه مرض اسمه العنصرية.
عندما قام الكاتب الروائي الأميركي الآتي من أصول أفريقية أليكس هايلي بتأليف ملحمته الخالدة «الجذور» التي تحولت إلى مسلسل تلفزيوني ناجح جداً، سرد فيه قصة وصول جد جده عبداً مقيداً بالسلاسل من غرب أفريقيا ليباع في ولايات شرق أميركا، كان هذا العمل الروائي التلفزيوني بمثابة مكالمة إيقاظ عنيفة جداً للمجتمع الأميركي، جعلته يراجع كثيراً من تشريعاته وسياساته العنصرية بعد أن أزيل اللثام عن الوجه القبيح للعنصرية في الولايات المتحدة.
المجتمعات لها أن تختار المنهجية الأخلاقية التي ستسير عليها، وتبني مستقبلها على مبادئها. خيارها إما أن تغوص في هوية أحادية شكاكة انعزالية مليئة بالقلق والتوتر، أو هوية آمنة مطمئنة مقبلة على الجميع بحسن ظن كبير. العالم بحاجة ماسة للخروج الفكري من الخطاب الانعزالي، خصوصاً في ظل تأجج العزلة نتاج تفشي جائحة «كوفيد-19» المدمر.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الخروج من العزلة الأخطر الخروج من العزلة الأخطر



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 21:27 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

كريستيانو رونالدو يدرس تأجيل اعتزاله للعب مع نجله
  مصر اليوم - كريستيانو رونالدو يدرس تأجيل اعتزاله للعب مع نجله

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 08:47 2020 الثلاثاء ,11 شباط / فبراير

ميسي وصيفا لـ محمد صلاح تسويقيا

GMT 16:55 2019 الأربعاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

السويد تعتقل عراقيا اتهمته بالتجسس لصالح إيران

GMT 06:05 2020 السبت ,03 تشرين الأول / أكتوبر

تعرّف على الفوائد الصحيّة لفيتامين "ك" ومصادره الطبيعية

GMT 05:39 2020 الخميس ,06 آب / أغسطس

حقيقة إصابة خالد الغندور بفيروس كورونا

GMT 07:44 2020 الثلاثاء ,16 حزيران / يونيو

سيفاس يفوز على دينيزليسبور بصعوبة في الدوري التركي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon