توقيت القاهرة المحلي 10:04:20 آخر تحديث
  مصر اليوم -

فكرة الحضارة بين الحداثة و«الحداقة»!

  مصر اليوم -

فكرة الحضارة بين الحداثة و«الحداقة»

بقلم: حسين شبكشي

كنت أتابع منذ أيام قليلة مضت برنامجاً حوارياً في إحدى القنوات الفضائية العربية، يدور الموضوع الرئيسي فيه ببساطة واختصار حول محاولة الإجابة عن سؤال واحد هو: «ما هي الحضارة الأفضل على مر التاريخ»؟ وبدأ كل ضيف من الضيوف في التسابق الشديد والحاد في تقديم الحجج والبراهين والأدلة على رجاحة اختياره، وتبادل السرد من الضيوف بإبراز أهمية أدوار الحضارة المصرية القديمة الفرعونية، وحضارة ما بين النهرين، وحضارة سوريا التاريخية القديمة، وحضارة فارس القديمة، وحضارة الصين، وحضارة الهند، مع عدم إغفال ما تم تقديمه من قبل الحضارة الأوروبية متمثلة في حضارتي أثينا وروما، بل حتى تم التطرق إلى دور حضارات الازتك والمايا والإنكا في مناطق أميركا اللاتينية.
والحقيقة أن النظرة المحدودة التي تصر على أن هناك حضارة أحسن من غيرها أو أن عرقاً أحسن من غيره أو أن شعباً أفضل من آخر، هي نتاج الجهل والجاهلية المتوارثة بأشكال متنوعة ومختلفة، ولكنها تصب جميعها في المصب الخبيث نفسه. فالحضارات الإنسانية عبر التاريخ مطلوب أن يتم التعامل معها على أساس أنه سباق تتابع من نوعية المسافات الطويلة جداً، كل حضارة تسلم نتاجها ومخرجاتها للحضارة التي تليها: الواحدة تلو الأخرى وكأنها تتسلم عصا التتابع.
إنها باختصار شديد حالة واضحة من التفاعل والتعاون البشري والتراكم المعرفي المتتابع. بناء معرفي على ما تم من قبل من دون الحاجة لإلغاء ما سبق أو إلى هدم ما تم بناؤه بشكل كامل. فالثراء العظيم الذي يعرف عن حضارة بلاد ما بين النهرين، كم أظهره خزعل الماجدي في كتبه القيمة أن هذه الحضارة كانت حضارة أممية شمولية تأسيسية، والشيء ذاته ممكن أن يقال عن حضارة سوريا التاريخية التي يقدمها لنا فراس السواح في كتبه المهمة واللافتة التي يظهر فيها عمق تلك الحضارة وعطاءاتها الثرية في مختلف المجالات.
عدا ذلك هناك حضارة فارس القديمة التي تألقت في الجوانب الروحية والفلسفية، فقدمت الديانتين الزادرتشتية والمانوية، بالإضافة لإبداعات عديدة في مجالات متنوعة. وهناك الحضارة المصرية الفرعونية القديمة، التي لا تزال إبداعاتها في مجالات المعمار والطب والتصميم ومجالات أخرى عديدة ومختلفة محيرة وتثير دهشة واستغراب العديد من الخبراء والعلماء حتى اليوم، وهو ما أشار إليه الباحث المصري الكبير الدكتور جمال حمدان.
وهناك الكثير مما يمكن أن يقال بحق الحضارة الأوروبية وأثرها المهم على العالم في مجالات العلوم والفنون والآداب والعمارة والطب والهندسة والحقوق والقانون، وقبلها كان العالم قد استفاد من نتاج وعطايا ومنتجات حضارتي الصين والهند.
العالم بحضاراته ليس بجزر منعزلة مستقلة عن بعضها البعض، ولكنها مترابطة إنسانياً وبتبادل المعرفة، التي فتحت مهارات الترجمة شِفرات العلوم الخفية من قبل وكان ذلك أشبه باكتشاف الجاذبية أو اكتشاف الكهرباء في أهميته. واليوم تقوم الشبكة العنكبوتية المعروفة باسم الإنترنت، بدور مهول وعظيم لتوحيد الحضارات وتقريب الجزر المعزولة عن بعضها البعض، فالناس يشاهدون الأفلام والمسلسلات نفسها، ويقرأون الكتب نفسها، ويسمعون الأغاني نفسها، ويحترمون القوانين نفسها والقوانين التي تعترف بخصوصياتهم وخياراتهم المختلفة.
لا تتحمل البشرية ولا يمكن تحميل الإرث الإنساني هم وثقل وعبء ووزر تفضيل حضارة على أخرى بعد اليوم، فتاريخ الخلافات والحروب الدموي الذي أشعلته هكذا طروحات يبرهن لنا العبثية الكبرى التي لا يمكن أن تغتفر لتلك الطروحات الهزلية. لا يخاف من النظرة المتقاربة لحضارات العالم المختلفة إلا المضطربون والخائفون على هوية هشة اعتمدت على صناعة سردية معينة لتبرير الوجود. واليوم مع الانفتاح التاريخي على الآخر على صعيد العالم وتبني نظرة موحدة وقيم موحدة، يصبح الرافض لهذه المنظومة الجديدة أشبه بكوريا الشمالية، فالكل يعرف أين تقع، ولكن لا أحد يرغب في الذهاب إليها.
مشروع صدام الحضارات حذر منه المؤرخ الأميركي الراحل صمويل هانتنغتون في كتابه الذي أثار جدلاً كبيراً في وقته «صدام الحضارات» وشاهدناه بعد ذلك يأخذ أشكالاً مختلفة في مناطق مختلفة حول العالم، وذلك بوجود خطاب انعزالي عنصري همجي يزيد من حرارة الانشقاقات الفكرية المؤيدة لمشروع صدام الحضارات المدمر.
لا توجد حضارة أفضل من أخرى... هذه هي الخلاصة التي يمكن الخروج بها، فالكل نتاج من سبقه.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

فكرة الحضارة بين الحداثة و«الحداقة» فكرة الحضارة بين الحداثة و«الحداقة»



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 22:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
  مصر اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon