بقلم: حسين شبكشي
يعتبر ديفيد سينكلير من أهم الشخصيات العلمية المعاصرة في عالمنا اليوم. فالأستاذ المحاضر في قسم الوراثة بمعهد بلافاتنيك بكلية الطب بجامعة هارفارد العريقة بمدينة بوسطن الأميركية والذي اختارته مجلة «تايم» الأسبوعية العريقة واحداً من أكثر 100 شخصية مؤثرة على صعيد العالم، له كتاب في غاية الأهمية بعنوان: «العمر المديد: لماذا نتقدم في السن؟ وكيف يمكن ألا نهرم؟»، يقدم فيه المؤلف طروحات جديدة وشديدة الجرأة، لعل من أهمها اعتباره الشيخوخة مرضاً «يجب علاجه»، ويخبرنا عن العديد من «الحلول» و«الابتكارات العلمية» التي يجري العمل عليها لأجل ذلك، ويسرد لنا في مؤلفه بإسهاب كبير كيف أضاف التطور والرعاية الطبية سنوات طويلة ومهمة إلى أعمار البشر، بعد أن كان معدل أعمار البشر بالكاد يصل إلى الأربعين عاماً بشكل عام. وهذا له علاقة أيضاً بتحسن نوعية الأغذية المستقرة والوصول إلى مصادر مياه عذبة ونقية، والاهتمام بالصحة العامة بشكل عام.
هذه الفكرة يبدو أنها ستتحول بالتدريج ومع الوقت إلى شبه حقيقة، فالعالم يشهد اليوم فترة مميزة من تاريخه البشري؛ فلأول مرة هناك «كم عددي غير مسبوق» من سكان الأرض الموصوفين بالمئويين، بمعنى الذين وصلوا إلى سن المائة عام أو تجاوزوها. وهذا الواقع الجديد والآخذ في التشكيل والتكون، سيكون حتماً له تبعات في غاية الأهمية على العديد من المسلّمات التي بين أيدينا اليوم، كنظام التعليم الأولي والجامعي ونظام التوظيف والعمل، وبطبيعة الحال وبشكل لاحق على منظومة التقاعد أيضاً. وعليه، من الممكن تصور عالم أعمال جديد يكون المعمرون فيه جزءاً منه والوظيفة الأبدية جزءاً من الماضي وفكرة التقاعد ستختفي تماماً لأسباب مالية بحتة أو نتاج وجود الخيار في الاستمرار.
سوف يكون من الممكن «تخيل» مجالات عمل متعددة لكل شخص يوظف فيها قدراته ومهاراته وتعليمه وخبراته بحسب المطلوب، وبالتالي سيكون التعليم مبنياً على توفير المهارات والقدرات ولكن بحسب الطلب، مما يعني عملياً تعليماً مهاراتياً قصيراً ومركزاً للغاية وبحسب الطلب، وهو الذي يعني بشكل أو بآخر نهاية عصر الشهادة الجامعية التقليدية.
تاريخياً وتقليدياً كانت أهم ما توفره الشهادة الجامعية التقليدية هو الخليط الجاذب من التدريب المؤهل في المهارات الأساسية والمهارات الثانوية والنقد التحليلي، وبعدها فرصة التواصل مع مجتمع الأعمال من خلال منهجية متوافق عليها تتيح فرصة التوظيف. ولكن ما يحصل اليوم في عالم التعليم هو بداية تغيير عظيم قادم قد يؤدي إلى إعادة هيكلة عميقة وكاملة في قطاع مؤثر وفعال ومهم أصابه الجمود والتكلس لسنوات ليست بالقليلة أبدا. شركات ومؤسسات مختلفة تدخل مجالات التعليم وتقدم شهادات «مختلفة» وتعيد صياغة مفهوم علاقة الشهادات الجامعية الأكاديمية بسوق العمل لتقدم منتجاً بالتفصيل والقياس الشخصي والخاص لكل متقدم. ولعل المحرك الأعظم لهذا التوجه اللافت الجديد هو التقنية الحديثة وما توفره وتقدمه من خيارات غير مسبوقة. وقد تبين للمختصين في الشأن التعليمي وآثاره على أسواق العمل والتوظيف، أن هناك أربعة اتجاهات رئيسية مستجدة لا بد من أخذها في الاعتبار وهي:
1- أن اختيار التخصصات سيكون مبنياً وبشكل أساسي على ما يقدمه التخصص كأفضل عائد على الاستثمار (وليس حباً في التخصص نفسه كما كانت القاعدة من قبل).
2- التعليم سيكون مستمراً وعلى مدى العمر وليس مرحلة عمرية وتنقضي.
3- المواد ستكون مكثفة وأقصر من ناحية المدة الزمنية حتى تلبي الاحتياج الآني والفوري، وتستطيع أيضاً التأقلم مع فكرة أن التعليم مستمر مدى الحياة.
4- نموذج أعمال جديد ينظم العلاقة بين مقدم خدمة التعليم (مدرسة، معهد، كلية، أكاديمية، مركز، أو جامعة)، وطالب الخدمة، بحيث لا يتم سداد إلا خمسين في المائة من الرسوم المالية، ويتم سداد الباقي من عوائد الوظيفة التي تؤمنها له الشهادة التي يحصل عليها (بحيث تكون المسؤولية مشتركة)، علماً بأن بعض المؤسسات التعليمية بدأت بالفعل في تقديم هذه الخدمة الجديدة تماماً.
الذكاء الصناعي تحديداً سيكون بطل المشهد التعليمي القادم لأنه إذا ما نجح توظيفه بشكل أفضل وكما يخطط له، فسيكون لدينا سوق عمل مثالية تخرج الناس بحسب الاحتياج وبتقليل عظيم في هدر الموارد المالية والطاقة البشرية.