بقلم - حسين شبكشي
تتواصل الأحداث الدموية في السودان. ومع محاولات كثيرين في تحليل المشهد السوداني ومعرفة دور الأطراف والقوى غير المشاركة بشكل مباشر -وإن كان لا يمكن إخفاء أثرها وقوتها- يكون من البديهي محاولة قراءة الدور الإسرائيلي في ذلك المشهد، ومعرفة البعد التاريخي لهذا الدور.
ليس خافياً على أي متابع للاستراتيجية الإسرائيلية أن دول حوض نهر النيل في القارة الأفريقية تعتبر «ضرورة ومهمة للأمن القومي الإسرائيلي»، حسبما تم التصريح به في مناسبات مختلفة. وهذا -طبعاً- هو أحد أهم أسباب التعاون المهم والعميق بين إسرائيل وإثيوبيا، على سبيل المثال.
ونال السودان الاهتمام من إسرائيل منذ بداياتها، فلقد التقى وفد من الحكومة الإسرائيلية بوفد من حزب «الأمة» السوداني عام 1954 قبل الإعلان الرسمي عن استقلال السودان، وبدأت إسرائيل تنسق لعلاقة قوية معه بعد استقلاله، وأعدت سياسة دعم له، حسبما ذكر محلل الشؤون الاستخباراتية يوسي ميلمان في صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية، والذي أضاف أن كل ذلك تبدد بعد انقلاب الجنرال إبراهيم عبود عام 1958، ليصبح السودان من أعداء إسرائيل، بعد انضمامه للمحور الناصري.
وفي هذه المرحلة قررت إسرائيل الانتقام من السودان، حسب قاعدة «عدو عدوي صديقي»، بناء على ما وضحه يوسي ميلمان، واتخذت قراراً استراتيجياً في مطلع الستينات الميلادية من القرن الماضي، بدعم عسكري ومالي كامل للتمرد في منطقة جنوب السودان، والذي كان يقوده الجنرال جوزيف لاقو.
في أكتوبر (تشرين الأول) 2015، سمحت الرقابة العسكرية في تل أبيب بصدور كتاب إسرائيلي، تضمن تفاصيل تدخل جهاز الاستخبارات «الموساد» في تقسيم السودان، وبناء القوة العسكرية والاقتصادية لدولة الانفصاليين في الجنوب.
والكتاب، تحت عنوان «مهمة الموساد في جنوب السودان»، يؤرخ لدور ضابط في «الموساد»، دافيد بن عوزئيل، في تدريب الانفصاليين وتسليحهم، وصولاً إلى «استقلالهم» في عام 2011، الأمر الذي يعدّ «إنجازاً إسرائيلياً ونجاحاً خاصاً للموساد».
رأت إسرائيل في السودان «عقدة شائكة» تتطلب علاجاً خاصاً، وبالأخص أنه يتشكل من ديانات وإثنيات متعددة، موزعة بين الشمال العربي والمسلم، والجنوب المسيحي، الأمر الذي يسهل عملية تقسيمه. بل إن رئيسة الوزراء الإسرائيلية السابقة، غولدا مئير، قررت العمل على هذا البلد، والموافقة على طلب المساعدة الذي تقدم به الجنوبيون إلى تل أبيب، وهو المسعى الذي تكلل بالنجاح بعد أربعة عقود.
ويرد في الكتاب توثيق لكلام سفير جنوب السودان لدى إسرائيل، عند تقديم أوراق اعتماده للرئيس الإسرائيلي، رئوفن رفلين، في ديسمبر (كانون الأول) 2014، ويؤكد فيه أن «جنوب السودان أقيم بفضلكم، ولقد ولد الجنوب بفضل دولة إسرائيل والجنرال جون». والجنرال جون، وفق الكتاب، هو الاسم المعروف لـ«طرزان» في السودان، دافيد بن عوزئيل: «الشخص الذي أسّس جيش جنوب السودان، وأشرف على تسليحه وتدريبه».
ويؤكد الكتاب أن حركة «إنانيا» الانفصالية تأسّست خلال الحرب الأهلية السودانية الأولى، 1955- 1972، وتحولت إلى جيش قوي بفضل ثلاثة من ضباط «الموساد»، في مقدمتهم «طرزان» الذي له دور مهم في تقديم المشورة العسكرية والتنظيمية للانفصاليين، إلى جانب ضابط آخر هو إيلي كوهين الذي عمل مستشاراً سياسياً للانفصاليين، وضابط ثالث باسم «تشارلي».
وبشأن الدور الذي اضطلع به الضباط الثلاثة، كشف الكتاب أنهم دربوا الجنوبيين على كيفية تأسيس الجيش وتقسيمه إلى وحدات عسكرية، إضافة إلى تزويدهم بالأسلحة.
اتخذت العلاقات منحى جديداً مع الرئيس جعفر نميري خلال الأعوام 1977– 1980، عندما سهلا هجرة اليهود الإثيوبيين (الفلاشا) إلى إسرائيل، إذ دفعت إحدى المنظمات اليهودية في الولايات المتحدة 30 مليون دولار إلى جعفر نميري، لتسهيل عملية هجرة هؤلاء إلى إسرائيل.
والتقى الرئيس نميري بالإسرائيلي البارز (ورئيس الوزراء لاحقاً) أرييل شارون، ثم تورط نظامه فيما عرف بـ«عملية موسى» التي نقلت اليهود الإثيوبيين (الفلاشا) إلى إسرائيل عبر السودان. وحسب يوسي ميلمان، اجتمع نميري سراً في عام 1981 بوزير الأمن الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون، في كينيا، بمساعدة من رجل الأعمال الإسرائيلي ياكوف نمرودي (تاجر سلاح ورجل استخبارات، من أصول عراقية)، والمسؤول في جهاز «الموساد» دافيد كيمحي.
تواصلت إسرائيل لاحقاً مع عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو (حميدتي)، والأخير يقال إنه زار إسرائيل سراً حسب معلومات مختلفة. التقسيم السوداني هدف من أهداف إسرائيل لتهديد مصر من حدودها الخلفية، وإذا كان اسم إسرائيل غائباً عن أحداث السودان الحالية فلا يعني ذلك عدم وجود بصماتها فيها، وخصوصاً إذا ما قرأنا تاريخها في السودان بعناية.