بقلم: حسين شبكشي
كان لجهبذ علم إدارة الأعمال توم بيترز المتخرج في جامعة ستانفورد العريقة، كتاب ناجح جداً بعنوان «النجاح على فوضى»، وهو يحكي عن تجارب ناجحة لشركات كبرى بُنيت أساليب نجاحها على الفوضى، ولا أعلم إذا كان ذلك أثّر بشكل أو بآخر على وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس (هي الأخرى خريجة جامعة ستانفورد) وجعلها تخرج بمقولة «الفوضى الخلاقة»، والتي باتت نقطة الانطلاق لمشروع الشرق الأوسط الجديد عام 2005 بعد سنتين من غزو أميركا للعراق وليس كما يقال ويشاع أن وراء ذلك هو الرئيس باراك أوباما، الذي «تسلم» من الرئيس بوش الابن المشروع بعد انطلاقه. كوندوليزا رايس كانت تعتقد يقيناً أن الشرق الأوسط لا يمكن أن «يتغير» تماماً ويتحول إلى الديمقراطية قبل أن تعم به الفوضى التامة والعارمة وتدمره فينهض مجدداً من خلال قوى أخرى وجديدة. وللحق ومن أمانة القول فهذا اللفظ قد استُخدم من قبل ولكنها هي كانت أول من وظّفه مشروعاً سياسياً متكاملاً، وهناك مَن ينسب اللفظ إلى مستشار الأمن القومي الأسبق مايكل ليدين أحد أبرز منظّري المحافظين الجدد واستخدمه عام 2003. والتاريخ له رأي آخر، فالكاتب الفرنسي ستيفن مالارمه استخدمه في أشعاره عام 1886.
سياسياً برز مصطلح «الفوضى الخلاقة» في أدبيات الكاتب الأميركي المؤرخ ذي الخلفية العسكرية ألفريد ثاير ماهان في عام 1902، وفي عام 1911 وظّفه أسطورة الفن التشكيلي الحديث الإسباني باولو بيكاسو باستخدام وصف (التدمير الإبداعي)، وبعده جاء مواطنه الفنان التشكيلي الشهير سلفادور دالي عام 1931 ليدعو إلى (فهم الفوضى إبداعياً)، ثم جاءت مقولة المؤلف الاقتصادي الكلاسيكي المعروف جوزيف شومبيتر عام 1942 لتلفت النظر إلى (التدمير الخلاق)، ثم ذكرها المؤلفان ريتشارد نولان وديفيد كروس في كتاب «التدمير الخلاق»، وبعد ذلك كله اشتهرت به كوندوليزا رايس.
تبنت كوندوليزا رايس فكرة قدر الضغط للطهي، للدفع بظروف البلدان الداخلية الصعبة وإيصالها لدرجة الغليان العظيم ثم نشر القلق والخوف والشك في مختلف طبقات المجتمع عبر وسائل التواصل واستخدام المنصات التي وفّرتها شبكات الإنترنت (وهو ما تبنّته بعد ذلك وزيرة الخارجية في حقبة باراك أوباما هيلاري كلينتون بفعالية وتأثير كبيرين)، ومع مرور الوقت تبين أن هذه الخلطة قادرة بالفعل على إحداث فوضى، بل فوضى هائلة جداً ولكنها تقف عند هذا الحد لأنها فوضى فقط.
اليوم نرى ذلك الأمر بشكل واضح جداً في العراق وسوريا واليمن وليبيا، والأدلة والآثار الهائلة تتحدث بشكل جليّ عن نفسها. وبالتالي يمكن القول إن «مبدأ» أو «نظرية» الفوضى الخلاقة التي تبنّتها رايس فشلت فشلاً ذريعاً بأن الفوضى ستتحول إلى قوة خلاقة. آدم سميث مؤلف الكتاب الاقتصادي الأول والأشهر باسم «ثروة الأمم» كان دوماً يقول إن الأسواق تتدخل فيها (اليد الخفية) لإصلاح أوضاعها، ورايس كانت لديها قناعة شبيهة بذلك.
الواضح من الأحداث أن الفوضى تبقى فوضى، ولا تملك قوة منبثقة من خلالها تتحول بموجبها إلى وجود إبداعي وخلاق، تماماً كما حصل في حالات مصر والجزائر والسودان وتونس؛ جميعها اشتركت في وجود جيش وطني مستنير واعٍ يحمي الشعب ويحافظ على الدستور ويرعى مصالح دولة القانون ويحترم الحياة المدنية، وهو عكس ما حصل في سوريا والعراق بحيث طغت فكرة حماية الطائفة والعائلة الحاكمة على مصلحة البلد، وفي اليمن وليبيا سيطرت فكرة حماية العشائر على مصلحة الوطن.
كنت قد قابلت رشيد عمار قائد أركان الجيش التونسي ومهندس إخراج الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي من تونس بشكل سلمي وتأمين سلمية التغيير، وسألته: ما السر في نجاح ما عمله؟ فقال لي: تونس دولة مدنية ولا تستحق الفوضى.