بقلم: حسين شبكشي
فخر الدين شخصية لبنانية أسطورية نسجت حولها الكثير من القصص لإظهار مواقف «وطنية» رسخت هوية «الجبل» المستقل في تاريخ لبنان. وقد اختلفت الروايات في تحديد هوية الأمير فخر الدين، فالموارنة قالوا إنه منهم، والموحدون الدروز قالوا نفس الشيء، وإن كانت أغلب الروايات ترجح أنه من الدروز، ولكن بغض النظر عن هوية الرجل فإن رمزية «الجبل» في التاريخ اللبناني لا يمكن إنكارها. فالجبل شهد مذابح بين الموارنة والدروز، مذابح إقطاعية ومذابح دينية كلها لأجل بسط النفوذ والسيطرة، والجبل كان النقطة التي اعتمد عليها الموارنة مع المستعمر الفرنسي عبر التاريخ بأن يطلق عليه جبل لبنان كإمارة أو قضاء «مستقل» بهوية «مختلفة» وعرف هذا الأمر بأنه كان نواة للبنان المستقل الذي أتى لاحقاً بعد ذلك. وطبعاً مجد اللبنانيون «الجبل» في أمثالهم وأغانيهم بشكل محبب. وبقي الجبل أيقونة لبنان.
وبالرغم من أن الحرب الأهلية أظهرت الاقتتال الجنوني الموتور بين الطوائف المختلفة في لبنان، إلا أن اللبنانيين أنفسهم يجزمون أن أسوأ المعارك وأكثرها دموية ووحشية كانت التي تحصل بين أفراد الطائفة الواحدة، وهذا الأمر وضحه جداً جوناثان راندل في كتابه المهم «الذهاب للنهاية» وتحدث عن الاقتتال الوحشي داخل الطائفة المسيحية المارونية مستشهداً بأحداث زغرتا وبشري بين القوات اللبنانية والكتائب والمردة، ولاحقاً طبعاً يتذكر اللبنانيون أحداث قوات جعجع ضد عون، وأيضاً هناك مذابح قوات «أمل» ضد تنظيم «حزب الله» الإرهابي وغيرها من الأمثلة.
والآن يضع اللبنانيون أيديهم على قلوبهم خوفاً من فتنة كبرى داخل الطائفة الدرزية بين الزعيمين الكبيرين وليد جنبلاط وطلال أرسلان، وقد يبدو أن الموضوع حادث محلي فردي عابر (تعود) عليه اللبنانيون، إلا أنني أعتقد أنه له أبعاداً أكبر بكثير مما يظهر، إذ ليس بخافٍ على أحد الصراع على زعامة طائفة الدروز بين كل من طلال أرسلان ووليد جنبلاط. الأول ابن الأمير مجيد أرسلان الزعيم التاريخي للطائفة وأحد الآباء المؤسسين لاستقلال لبنان من فرنسا، والثاني ابن كمال جنبلاط الزعيم المعاصر للطائفة لما منحها من بعد قومي عربي وبعد اشتراكي يليق بضرورة المرحلة المطلوبة، بالإضافة إلى شخصية كمال جنبلاط التي كانت متأثرة جداً بالتعاليم الهندية مما أكسبه بعدأً روحياً وحكمة عميقة وانعكس ذلك على نحول جسمه وهندامه المتواضع مما جعله يتبنى مواقف قوية دفع حياته ثمناً لها عندما قتله نظام حافظ الأسد، «معلم روحاني وزعيم سياسي.. ماذا تريد أكثر من ذلك»؟ كما وصفه لي ذات يوم الفنان والأديب الدرزي المعروف الراحل سامي مكارم ابن بلدة عيتات. أغتيل تماماً كما حصل مع والده فؤاد جنبلاط من قبله الذي اغتاله الاحتلال الفرنسي، وللعلم كان كمال جنبلاط متزوجاً من مي أرسلان ابنة الأمير مجيد أرسلان.
ونظام بشار الأسد يعادي زعامة آل جنبلاط للطائفة ويغذي منافسيه كطلال أرسلان ووئام وهاب، بل تدخل في موضوع اختيار المرجعية الدينية الأعلى للطائفة المعروف بشيخ عقل الطائفة، وشككت في صلاحية الشخصية التي تم التوافق عليها ورشحت غيرها. هناك قناعة لدى نظام الأسد أن زعامة وليد جنبلاط للطائفة «انتهت» وخصوصاً بعد أن تنازل عن زعامتها لابنه الوحيد تيمور غير المتحمس للمسألة من الأساس، وبالتالي هذه فرصة للانتقام منه ومن عائلته ومنحها لطلال أرسلان ابن الزعيم التاريخي للطائفة، ولكن غير المقنع جماهيرياً. وزاد من حماسة نظام بشار الأسد للقضاء على وليد جنبلاط تصريح الأخير على لسان صديق له من الحكومة الروسية قال فيه إن بشار الأسد بعث برسالة لإسرائيل عن طريق الروس قال فيها إنه في حالة استقلال دولة علوية ستكون هناك علاقة سلام بينها وبين إسرائيل، وليس هذا الموقف الوحيد الذي تتهم فيه أجهزة نظام بشار الأسد جنبلاط، ولكنها توجه إليه أصابع الاتهام بأنه وراء تمرد أهل السويداء وهم من دروز سوريا ضد النظام، ورفض شبابهم الانضمام للجيش ومواجهة قوات الأمن فيها احتجاجاً. وكذلك تتهمه بتحريك دروز الجولان وتهدئة احتجاجهم ضد إعلان ضم الجولان وعدم رفع أعلام نظام الأسد ولا صوره، وهي حركة فطنت لها إسرائيل وزادت من التسهيلات الممنوحة للدروز في إسرائيل وسمحت لهم بالانضمام لأول مرة ضمن طاقم شركة طيران «العال» الإسرائيلية والتي كانت حصراً على اليهود، بالإضافة إلى إشارات أخرى. ما يحدث في فتنة الجبل في لبنان بين «بني معروف» ليس حادثة فردية أبداً. هناك مثل درزي قديم يقول «بإيدي خبز وبإيدك خبز.. ضيقة العين ليش».