بقلم: حسين شبكشي
هل الجماهير والجمهرة دوماً على حق؟ سؤال فلسفي عميق تباحث فيه جهابذة العلوم السياسية من أفلاطون إلى مكيافيللي مروراً بابن خلدون وجون هوبز.
مراجع العلوم الاجتماعية والسياسية مليئة بنقد نظريات الجماهير، التي لها علاقة بالثورات، وهناك آراء من قبل مكيافيللي وجون هوبز تفيد بأولوية الاستقرار مهما كان الحكم قاسياً، لتبقى الأولوية في مواجهة فوضى مفتوحة وعارمة قد تؤدي إلى دمار، وتؤذي الحلقات الضعيفة والفقيرة دون دور توجيهي من النخبة كما حصل في الثورتين الأميركية عام 1776 والفرنسية في 1789، إلا أن التحذير يفشل حينما يتم الاستشهاد بما حدث في الثورة البلشفية في روسيا عام 1917 والثورة الإيرانية في 1979 اللتين جاءتا بنظم شمولية شيوعية وطائفية متوحشة. ولذلك من المهم جداً التمعن فيما يحصل في لبنان هذه الأيام ومحاولة فهمه بعمق.
إن الشعوب من الجائز أن تتعايش مع المعاناة وصعوبات المعيشة والظلم تحت شعارات مثالية وحالمة تبشر بغد وردي جميل. من الممكن أن يقبلوا أن يكونوا منقادين باسم الحماية والأمن والمحافظة على البقاء الرمزي، بل وحتى على الحياة نفسها.
من الممكن أيضاً أن يتعايشوا مع قيادات ورموز وأيقونات تاريخية لهم (بشقيها السياسي والروحي) مع فجورهم ونفاقهم، وهم ينعمون بالرخاء ورغد العيش بينما هؤلاء الشعوب يعيشون في ملجأ أو فندق رخيص على أقل وأفضل تقدير ووصف.
ومن الممكن المسايرة والتعايش مع زعاماتهم التي هي أشبه بدويلات أو جزر متفرقة لا رابط بينها وكأنها مخيمات لها عمر افتراضي على ذات الأرض.
ومن الممكن أن يتعايشوا مع أي ظرف سواء أكان منطقياً أو عقلانياً أو غير ذلك فقط لتستمر الحياة، أياً كان شكل هذه الحياة. إلا أنه مع هذا المشهد تولد «اللحظة»؛ لحظة بلا ملامح ولا مقدمات، لحظة بلا شبيه، لحظة تخرج من رحم المجهول، لا يمكن توقعها ولا التنبؤ بها ولا تصور وقت خروجها. إنها اللحظة التي يتساوى فيها افتقاد كل شيء مع خسارة كل شيء. إنها لحظة يتساوى فيها اليأس مع الأمل والموت مع الحياة. إنها اللحظة التي تتغير فيها الحسابات عندما يفقد الإنسان فيها أي منافع وإغراءات تستحق الحياة.
الفيلسوف العبقري الألماني هيغل له كلمة مهمة في ذلك الأمر تقول إن «كل أحلام البشر وأمانيهم وأفكارهم وعلاقاتهم ومعتقداتهم وأعمالهم... كل هذه وغيرها تصب في بحر المنفعة». لبنان كان دوماً قصة نجاح «أفراد» وقصة فشل «مجتمعي»؛ لأن المجتمع كان منفصلاً عن واقعه في جزر بعيدة. اليوم هناك طوفان وهناك سفينة نوح، ولكن الطوفان هو إبقاء الوضع على ما هو عليه والسفينة هي التغيير والإصلاح. عندما يفقد شعب كامل المنفعة في دنياه، تخرج وتطفو على السطح كوابيسه وإحباطاته وهمومه وأحلام مستقبله المعلقة والمؤجلة للأبد ورغد عيشه المأمول ورخاؤه المنتظر ومطالبه المجمدة وأحلامه المحنطة كافة. يخرج إلى الميدان والشوارع والأزقة ويلتقي بوجوه كانت تصنف في خانة الأعداء والمخالفين.
عداوات تم تهييجها عبر سنوات من زراعة الشك والريبة والقلق والخوف، وتكريس كل ذلك في العقول والقلوب والنفوس؛ ليكتشفوا فجأة في هذه اللحظة السحرية العجائبية أنهم يدعسون معاً على كافة الخرافات والخزعبلات التي فرقتهم، وأنهم معاً ينشدون الشيء نفسه؛ المنفعة المحترمة المطلوبة، وأنهم جميعاً لديهم الحلم نفسه ويشبهون بعضهم بعضاً في انتماءاتهم المعنوية التي لم يعد لها نفس المعنى.
تلك المعاني روّج لها بشكل مقدس وتحولت مع مرور الوقت إلى جدار من الصلب حول العيون والعقول والقلوب منعهم عن بعض، ورؤية الحق، ومنعهم من حياة طبيعية بسيطة سهلة عقلانية يتقاسمون فيها اللذة في العيش الكريم المشترك وخيرات المنفعة التي يحلمون بها.
لبنان كان مضرباً للأمثال في الطائفية والتقسيم، ما يحصل اليوم هو رمزي ولم يكتمل... هو انتقال من خرافات غيبية كدولة الفقيه ودولة الخلافة ودولة المخلص إلى دولة المواطنة، وصولاً إلى دولة مدنية متكاملة قابلة لأن يكون فيها القانون فوق الجميع، ولكنه على الجميع وللجميع، ووقتها سيكون «تعمّر» لبنان.