توقيت القاهرة المحلي 09:57:45 آخر تحديث
  مصر اليوم -

المشهد من براغ!

  مصر اليوم -

المشهد من براغ

بقلم - حسين شبكشي

تابعت معظم الوسائل الإخبارية العالمية التجمعات الكبيرة التي حدثت في قلب العاصمة التشيكية براغ منذ أيام قليلة وتحديداً في ساحة وينسيسلاس التاريخية، والتي قدر عدد المشاركين فيها بأكثر من 70 ألف شخص. وسبب الاهتمام بهذا الخبر هو أن هذه المظاهرات كانت الأكبر والأهم حتى الآن في مدن أوروبا الكبرى، التي خرجت للتعبير عن مخاوف الناس من ارتفاع تكلفة الطاقة بشكل لافت ومقلق، وخصوصاً أن فصل الشتاء الذي عادة ما يكون شديد البرودة اقترب وعلى الأبواب.

وانطلقت الكثير من التحليلات على ألسنة «خبراء» و«محللين» في الفضائيات الإخبارية العربية تصور المشهد في براغ بأنه نهاية للموقف الأوروبي الداعم لأوكرانيا، وأن هذا المشهد ما هو إلا انتصار للرئيس بوتين والموقف الروسي. وهذه القراءة لا تعي ولا تدرك الواقع التشيكي وتاريخ العلاقة المعقدة والمضطربة جداً مع روسيا بشقيها السوفياتي والفيدرالي، لأن ذكريات الشعب التشيكي مع الروس مؤلمة جداً وقاسية للغاية، فالاحتلال السوفياتي لبلادهم عقب التقسيم القسري للدول الأوروبية بين المعسكرين الشرقي والغربي في نهاية الحرب العالمية الثانية كان بمثابة الصدمة الحضارية العظمى، التي وأدت أحلام وطموحات التشيك الحالمين بالإبداع والحرية، وهم الشعب الذي انطلقت منه الحركة البوهيمية الإبداعية التي أخذت من اسم أكبر المقاطعات التشيكية «بوهيميا» اسماً لها، وبلغت هذه القسوة ذروتها في نهاية حقبة الستينات الميلادية من القرن الماضي عندما حصل التدخل العنيف من السوفيات بالدبابات على براغ لقمع المطالب بالاستقلال عن الهيمنة السوفياتية.

والتشيك هم جزء من الأمة السلافية التي ينتمي إليها كل من روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا وصربيا وكرواتيا وسلوفاكيا وبولندا، وبالتالي لم يكن غريباً أن تكون إحدى أكبر الدول الداعمة لأوكرانيا ضد الاجتياح الروسي عليها، وقدمت الملاذ الآمن لأكثر من 40 ألف أوكراني على أرضها، وسخّرت لهم المنازل والمدارس والمنظومة الصحية، بالإضافة إلى الدعم العسكري والإغاثي لحكومتهم.

وكانت مظاهر هذا التأييد العارم على الصعيدين الحكومي والشعبي بمبادرات رسمية وفردية على أكثر من صعيد وفي أكثر من مجال. ومن المعروف أن الجمهورية التشيكية مثلها مثل غيرها من معظم الدول الأوروبية كانت تعتمد وبشكل رئيسي على احتياجاتها من الطاقة على استيراد الغاز الروسي، ومع تداعيات الأزمة بين روسيا وأوكرانيا كان الارتفاع القياسي لتكلفة الغاز الروسي على القارة الأوروبية بشكل عام، وهو الأمر الذي انعكس بشكل سلبي للغاية على معدلات التضخم التي وصلت لمستويات قياسية عُليا، وأدى ذلك إلى انكماش اقتصادي حاد في ألمانيا قلب الاقتصاد الأوروبي التي، تشكل وحدها أكثر من 24 في المائة من سوق التصدير التشيكية. وعليه فمن المهم جداً التأمل في مشهد التجمعات التي حصلت في براغ والتعامل معها على أنها موقف شعبي من التداعيات الاقتصادية التي حصلت وتكلفتها الباهظة، وهي مشاهد من الوارد جداً تكرارها في عواصم أوروبية أخرى سيكون لها ثمن سياسي على ما يبدو.

ورغم كون الجمهورية التشيكية لا تعتمد على اليورو كعملة رسمية لها؛ لأنها من اليوم الأول اعتمدت على عملتها الوطنية الكرونة، فإن التداعيات السلبية العميقة في قيمة اليورو كان لها الأثر عليها وعلى اقتصادها كسائر دول القارة، مع ضرورة الملاحظة أن البنك المركزي التشيكي يعتبر من أنجح البنوك المركزية الأوروبية في حفاظه على سياسة نقدية متوازنة. القارة الأوروبية اختارت قراراتها بإنهاء الاعتماد على الغاز الروسي، وحصلت تحولات في غاية الأهمية في مشاهد الطاقة في أوروبا، وأصبحت النرويج اليوم هي المورد الأول للدول الأوروبية، وعادت المحطات النووية للعمل مجدداً في أكثر من دولة أوروبية لإنتاج الطاقة بعد توقيفها عن العمل منذ فترة غير بسيطة من الزمن، كما عادت مناجم الفحم للعمل مجدداً كمصدر لإنتاج الطاقة. ورمزية ما يحدث في الجمهورية التشيكية مسألة في غاية الأهمية؛ لكونها الدولة التي ترأس حالياً مجلس الاتحاد الأوروبي.

هناك تكلفة اقتصادية كبيرة هذا الشتاء ستتحملها الاقتصادات الأوروبية رغم تزايد الألم الشعبي الواضح، ولكن أوروبا التي عانت من مرارة ومآسي حربين عالميتين في قلب حدودها لديها كل الأسباب للقلق والخوف من حرب روسيا على أوكرانيا وتداعيات تلك المسائل عليها، وهذا قد يفسر المواقف التي اتخذتها حكوماتها. ولعل التعليق المختلف ولكنه البليغ في آن هو ما قدمه أحد المعلقين الإخباريين التشيكيين معلّقاً على الأحداث الأخيرة في بلاده، فقال مستشهداً بمقولة للكاتب التشيكي الأشهر فرانز كافكا: «ابدأ بما هو صحيح بدلاً بما هو مقبول».

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

المشهد من براغ المشهد من براغ



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 22:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
  مصر اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon