بقلم: أمل عبد العزيز الهزاني
الإنجليزي تشارلز داروين؛ عالم الأحياء والجيولوجيا والأدب والقانون واللاهوت، برع وذاع صيته من خلال مدوناته؛ التي أصبحت مقالاتٍ، ثم كتباً جدلية حول تطور الأنواع، وحديث المجتمع والعلماء في كل العالم، خصوصاً فيما يتعلق بأبحاثه حول أنواع وأجناس الطيور والكائنات البحرية والنباتات.
وُلد داروين في بداية القرن التاسع عشر. في ذلك الوقت؛ لم يكن الإنسان قد اكتشف الجينات أو المادة الوراثية المعروفة باسم «DNA» أو «RNA»، وكانت كل البراهين والدلائل التي قدّمها في كتبه المثيرة؛ أهمها كتاب «أصل الأنواع»، ترتكز على شيء واحد؛ هو التأمل. التأمل هو زاد المعرفة. لذلك ظلت نظرياته موضع جدل بين مؤيد ومعارض حتى منتصف القرن العشرين حينما اكتشف الإنسان تركيب ال«ـDNA» وفهم بعد سنين طويلة من وفاة داروين أن نظريته صحيحة.
تشارلز داروين كان يحمل محبرة وريشة وورقة ويسافر إلى أستراليا وأميركا الجنوبية، يجوب العالم لسنوات يدوّن ملاحظاته حول أشكال الطيور وحجمها، وطول سيقان السناجب، وتباين الكائنات البحرية، وتبدُّل مظهر النباتات... كل ذلك قياساً على التغير في المناخ والتضاريس. بوضوح؛ فسّر داروين التباين والتغير الذي يطرأ على الكائنات الحية، بمقارنتها بأحافير قديمة تختلف في شكلها، بأن التغير جاء ليضيف صفات جديدة تسمح للكائن الحي بالبقاء في الطبيعة التي تصطفيه لأنه متكيِّف معها. سجّل داروين ملاحظاته، وبدأ في نشرها بين أصدقائه العلماء، ثم بدأت في الانتشار بين العامة الذين شككوا فيها، لكن ظل داروين محل تقدير واحترام من النخب العلمية. أهم ما ورّثه لنا داروين من عقله الفذّ أن الانتقاء الذي تقوم به الطبيعة هو العامل الرئيسي للتطور. وبعيداً عن التعقيدات التفصيلية؛ أقول إن داروين دوّن التباين في الكائنات الحية بالتفصيل، وأرجع هذا التباين إلى حدوث تغيّر جعلها تتطور إلى أنواع جديدة حتى تتمكن من النجاة في ظل ظروف بيئية متغيرة. أي إن الكائن الحي يستجيب للتغيّر في البيئة المحيطة حتى يستطيع أن يتكيّف معها، مثل أوراق النباتات التي تتحور إلى أشواك في المناخات الجافة حتى تقلل من نسبة المياه التي تتبخر من الأوراق. وعلى هذا النحو نقول إن البقاء ليس للأقوى، ولا للأكثر شجاعة، بل للذي يملك القدرة على التكيف مع البيئة، وليست كل الكائنات الحية تملك هذه المقدرة، لذلك تَفنَى وتنتهي.
أصبح مصطلح «الطفرات» على رأس قائمة المصطلحات العلمية للدارسين في حقل علم الوراثة والجينات، وهو ببساطة يعني حدوث تغيّر في بعض الجينات في نوع معيّن من الكائنات، بعد هذا التغير لا يعود الكائن الحي كما كان في السابق؛ لأن شفرته الوراثية تغيرت، لهذا نقول إن التغير أدى إلى تكوين سلالة جديدة من النوع نفسه. وكل الكائنات الحية؛ من أبسط الخلايا وأقدمها، إلى أكثرها رقياً مثل الإنسان، تحدث لها طفرات. ولكن الطفرة الطبيعية نسبتها قليلة جداً تتراوح بين واحد إلى مليون، وواحد إلى مائة مليار خلية. والفيروسات بشكل عام من الكائنات التي تحدث فيها الطفرات بمعدل أعلى، خصوصاً فيروسات ال«ـRNA»؛ مثل «كورونا»؛ لأنه شريط بسيط لا يملك آلية تصحيح أي خطأ يطرأ عليه مقارنة بفيروسات الـ«DNA».
أسمع كثيراً مصطلحات يتداولها الناس حول أن «كورونا المستجدّ» هجين، أو أنه مُصنّع! مصطلح «فيروس هجين» غير دقيق؛ لأن التهجين له معنى علمي مختلف، ومصطلح «فيروس مركّب» أيضاً غير صحيح. في الواقع؛ إن قدرة الفيروس على تحوير نفسه، أي حدوث الطفرات فيه، عالية. الهدف كما قال داروين هو البقاء، وخلال صراع الفيروسات للبقاء؛ تُحوِّر في شفرتها الوراثية لتتمكن من اكتساب صفات تعينها على التطفل على العائل المضيف لتعيش وتتكاثر. وللتوضيح أكثر، فإن فيروس (سارس)، «SARS»، الذي أدى إلى وفاة 700 شخص بين عامي 2002 و3003، هو الأقرب نسباً إلى «كوفيد19»، لكن أهم الفوارق بينهما هو أن الأخير تطور ليصبح التصاقه بخلية العائل المضيف أكثر قوةً وثباتاً، وهذا رفع نسبة شراسته مقارنته بقريبه «سارس». لذلك قيل إن الشفرة الوراثية التي أعلنت عنها الصين ونشرتها للعالم تختلف في بعض الجينات عن سلالة من الفيروس نفسه وُجدت في أميركا وأستراليا، بل حتى في الصين نفسها ظهرت سلالتان للفيروس، وهو دليل آخر على أن حدوث الطفرات في الفيروسات أمر طبيعي. لكن حينما نقرأ أن الاختلافات بين السلالات للفيروس نفسه كبيرة؛ فهذا لا يعني أن الخطورة كبيرة، لأن معظم الطفرات ليست لها أهمية طبية، وبمعنى آخر؛ فإن الطفرات الخاصة بـ«الإمراضية» هي المهمة، مثل آلية التصاق الفيروس بالمستقبلات على خلية العائل المضيف.
أما معظم الطفرات الأخرى فليس لها دور يذكر، عدا أنها توضح التباين في تسلسل الشفرة الوراثية من موقع جغرافي إلى آخر. ما دور الإنسان هنا؟ دوره بصفته باحثاً أو طبيباً هو التصدي لتكتيك الفيروس الذي نكتشفه من خلال شفرته الوراثية، مثل أن نسلب قدرته على الالتصاق بخلية الإنسان، وبالتالي نمنع اختراقه لها، وهكذا... نراقب ونرسم الخطط الدفاعية.
ببساطة فيروس «كورونا المستجدّ» أحدث تغييراً في بنيته الوراثية حتى يكتسب صفات تساعده على التطفل السريع. العلماء اليوم يقولون إنه من المستبعد أن فيروس الخفافيش انتقل للإنسان مباشرة، بل إنه تطور مرحلياً ليصيب حيواناً وسيطاً، ومن هذا الحيوان الوسيط انتقل إلى الإنسان. هذا يذكّرني بمعضلة داروين التي مات قبل أن يحلّها، وهي حيرته من وجود نباتات مزهرة لم يجد لها أصولاً أو آباء، وكان متأكداً من أن هذه النباتات لا يمكن أن تظهر فجأة، لكنه لم يعشْ ليثبت نظريته. وبعدما توفي وجد علماء الحفريات بقايا لنباتات تسبق النباتات الزهرية؛ أي من أسلافها، أثبتت أن النباتات الراقية لم تظهر فجأة؛ بل هي محصلة تطور وتغير حدث لآبائها في تركيبها الوراثي.
إن ما يحدث مع «كورونا» اليوم هو ببساطة تفعيل واقعي لما ذكره داروين قبل قرنين من الزمان.