بقلم: أمل عبد العزيز الهزاني
عبارة بليغة وعميقة قالها علي باباجان زعيم «حزب الديمقراطية والتقدم» التركي المعارض، ووزير المالية الأسبق، في قراءته لما يحصل في الداخل التركي، موجهاً حديثه إلى الرئيس رجب طيب إردوغان: «إن كنت لا تهتم لسعر الدولار، وتتجاهل عدد المرضى (كورونا)، وتضحك عندما تتم مقاطعة بضائعنا، فهذا يعني أنه لم يعد هناك شيء يهمك في هذا البلد».
الأخبار التي تأتي من الداخل التركي محزنة، لأنها تمس المواطن البسيط الذي يسعى ليشبع أسرته، ولا تؤثر على الأثرياء الذين تتطاول أعناقهم طمعاً في الزعامات، ويدسون أنوفهم في أوحال الصراعات، أملاً في التوسع الجغرافي، راجين عودة ماضٍ لن يعود.
الطفلة «كوبرا» توفيت بسبب الجوع في بلد كان قبل أقل من عقدين من أكبر اقتصادات العالم والأكثر قبولاً من السياح وإقبالاً من محيطه. هل يمكن أن يصل الوضع الاقتصادي في تركيا إلى درجة الفقر المدقع؟ أم هي مبالغات المعارضة التركية التي تطالب بانتخابات برلمانية ورئاسية مبكرة؟ مثلما ذكر صديقه القديم أحمد داود أوغلو المنشق عن حزب العدالة والتنمية، وزعيم حزب «المستقبل» الذي اتهمه «بتدمير شرف الأمة، بسبب سياساته التي تسببت في ارتفاع معدلات الفقر، وتحكم أقاربه في السلطة».
الحقائق على الأرض تقول إن الليرة التركية تتهاوى أمام الدولار بشكل غير مسبوق على الإطلاق، مع ارتفاع في نسبة الجائعين والعاطلين عن العمل، إضافة إلى الفساد الذي ارتبط بالطبقة الحاكمة وأسرهم. وما نقوله هنا لا يتنافى مع ما جاء على لسان إردوغان نفسه حينما واجه جمهوراً غفيراً من أتباعه ساخراً ممن يطلبون البطاطا والطماطم، لأن الرصاصة التي ينفق عليها أكثر أهمية.
وإذا أردنا أن نرجع إلى الوراء لنرى الصورة بشكل أكثر شمولية، فسيبرز لنا سؤال بسيط؛ لماذا ينفق إردوغان على الرصاص أكثر من البطاطا؟ كانت خطة إردوغان قبل عقد، أن يكون لتركيا «صفر» مشكلات، وكان أمراً سهلاً وحقيقياً، لأن تركيا ليس لها في الواقع أعداء تقابلهم بهذا الإنفاق العسكري الهائل. حزب العمال الكردستاني معضلة كردية بالدرجة الأولى وليست تركية، فهي القومية الكبرى في العالم التي لا تمتلك كياناً سياسياً، وهي مشكلة سياسية، بدليل وجود تمثيل للكرد في كل من البرلمان التركي والعراقي والإيراني، ولا تحتاج دولة تمتلك موارد جبارة مثل تركيا أن تختار بين الرصاصة والطعام. الواقع أن ما تقوله المعارضة صحيح، كل أحزاب المعارضة على لسان واحد، ومعظمهم من طاقمه القديم ويعلمون خبايا الأمور يقولون إن سياسة إردوغان الخارجية والداخلية هي من تسببت في تدهور حالة البلاد. هو من اختار المواجهة بالتورط في سوريا، خوفاً من تشكيل كيان كردي يجاوره في الجنوب، ويصعب فهم انتهازيته السياسية باستغلال عوز السوريين وقلة حيلتهم ليستأجرهم يحاربون باسمه في ليبيا وأرمينيا والعراق، واستغلال النظام القطري بابتزاز مليارات الدولارات كل شهر. إردوغان هو من استعدى الخليج ومصر والعراق وتونس وليبيا، ولا يمكن أن يتصور أن مثل هكذا سياسات ستكون ناجعة حتى لو كان الوحيد في العالم الذي يمتلك رأساً نووياً. هذه الأعمال الشريرة تزيده شراهة، مثل الظمآن الذي يشرب ماء البحر، سيصيبه الجنون في لحظة لا عودة عنها.
أكثر من يرى حقيقة إردوغان، هما المعارضة التركية والبيت الأبيض. المعارضة تقولها صراحة إنه يذم الإسرائيليين في العلن ويطلب ودهم في السر، وهو كذلك مع أميركا وأوروبا. والبيت الأبيض يرى أن إردوغان مثل قطر، ورقة جيدة ضد الروس مثلما قطر ورقة جيدة كوسيط لدى عالم الإرهاب. وأكثرهم جهلاً به هم العرب والأوروبيون. طيف واسع من العرب يسير خلف سراب عودة «الإخوان المسلمين» للحكم بمعونة إردوغان، خليفة الأمة بزعمهم. والأوروبيون رغم قوتهم المتمثلة في الاتحاد الأوروبي لا يزالون يطالعون أثينا، وهي تواجه تهديداً يومياً بلا حول ولا قوة، حتى ألمانيا أخذت دور المتفرج الصامت.
وفي الأزمة الأخيرة التي واجهتها فرنسا بمقتل مدرّس على يد صبي مسلم شيشاني بسبب عرضه صوراً مسيئة للرسول محمد - عليه الصلاة والسلام - اتضح مدى ضعف الأوروبيين ورخاوة مواقفهم، وكذلك اتضح مدى سذاجة بعض العرب وضآلة تفكيرهم. ماكرون يدافع عن علمانية فرنسا، لكن عليه أن يدفع ثمناً غالياً. ما هو الثمن؟ الثمن أن هذه الصور لم يشاهدها العالم الإسلامي عدا قلة قليلة قبل 3 أعوام، وكان بالإمكان رأب الصدع الذي حصل من دون أن تصل المسألة إلى إشهار سيف العلمانية المتطرفة واستفزاز الناس. ولأن فرنسا، مثل بريطانيا وألمانيا، رضيت بأن تكون بؤراً للإسلاميين المتطرفين، ومعظمهم من جماعة «الإخوان المسلمين» بحجة حرية التعبير، عليهم أن يتحملوا النتيجة. في حادثة كهذه، يتم الرد بالتنديد والرفض من سلطات الدول الإسلامية، رداً على السلطة الفرنسية، لأن الدول الإسلامية المعتدلة تبذل جهوداً عظيمة للتقارب بين أتباع الأديان، كمركز الملك عبد الله بن عبد العزيز للحوار بين أتباع الأديان والثقافات الذي يحقق قفزات كبيرة في هذا الاتجاه، وهذه الجهود تحتاج دعماً سياسياً، خاصة من الدول العلمانية، لأنها هي صاحبة الأبواب المشرّعة للجميع.
للأسف، هذه الأزمة التي مست مقدساً لدى المسلمين ولدى غيرهم ممن يجلّون الأنبياء، التقطها رجب طيب إردوغان للهروب للأمام، والفرار من مشكلاته الداخلية، خاصة أن المقاطعة الشعبية للمنتجات التركية توسعت في الخليج ووصلت للمنطقة العربية، فطالب بدوره بمقاطعة المنتجات الفرنسية.
هذا الموقف الصلف ردّ عليه زعيم حزب الشعب الجمهوري، كمال كليتشدار أوغلو، بأن إردوغان يستغل قضية فرنسا لتغطية الأزمات وانهيار الليرة، قال: «قاطعوا البضائع الفرنسية؟ حسناً، أحرق حقيبة هيرمس الخاصة بزوجتك (قيمتها 50 ألف دولار) وأغلق مصنع رينو في تركيا... إن كنت تجرؤ».