بقلم - أمل عبد العزيز الهزاني
ليس من قبيل المبالغة القول إن ما يقف بين المملكة العربية السعودية، قبلة العالم الإسلامي ومركزه النابض، وبين العراق ما بعد 2003 بتعدده الإثني، هو جسر عبور بسيط كان ينتظر أن تصفو أجواؤه للتحرك. الرياض رفعت يدها تماماً عن العراق احتجاجاً على الاحتلال الأميركي، واحتجاجاً أكبر على سوء إدارة واشنطن للملف العراقي بعد سقوط صدام حسين، وعدم أخذها بجدية نصائح المملكة حول التهديد المحيط بالعراق من النظامين الإيراني والسوري اللذين تسببا بدمار هائل للعراق وتهديد لبقية دول المنطقة.
مع الوقت، كما نرى، ثبتت صحة الرأي السعودي وخطأ الأميركي. الإيراني المتربص بالعراق يحمل جراباً كبيراً لمخططات انتقامية وتراكمات نفسية وأطماع لا حدّ لها، فدخلت إيران بعدّها وعتادها وثقلها إلى العراق بلا إذن، وفي أوجّ قوتها الاقتصادية والسياسية أشعلت نار الطائفية، وأججت الصراعات داخل البيت العراقي الواحد الذي كان يضم الشيعي والسني على السواء، واستجاب لها الكثير من الشيعة العرب الذين ظنوا أن حقوقهم التي سلبها صدام حسين باليد اليمنى ستعيدها لهم إيران باليد اليسرى. راقبوا ما يحصل اليوم، لم يعد يصدق إيران سوى الشيعة المنتفعين سياسياً، أو المضطرين إلى مجاراتها حفاظاً على مراكزهم أو على حياتهم.
اجتاحت إيرانُ العراقَ حتى وصلت إلى عمق بيت الرئاسة والبرلمان ومجلس الوزراء، وأصبح الأقرب حظاً لهذه المواقع هو الأقرب مسافة إلى طهران. وخلال هذه السنوات - نحو خمسة عشر عاماً - همّشت السيادة العراقية، حتى بات من الواضح للعراقيين أن العراق من دون إيران بلد آيل للسقوط بسبب صراعاته مع التنظيمات الإرهابية السنية و«القاعدة» بشكل خاص، والذين كانوا يتسربون من الحدود السورية تحت عين صديقهم بشار الأسد ورعاية طهران. أُريدَ بالعراق أن يكون بلداً ضعيفاً، عسكرياً وسياسياً وثقافياً واجتماعياً، أُريدَ به أن يكون أرضاً للرعب والموت، حتى يكون ملائماً للسيطرة الإيرانية التي تتطفل على الأجساد المريضة. عجزت إيران عن الدول المتماسكة في بنيانها السياسي والاجتماعي لكنها نجحت في أفغانستان والعراق ولبنان وسوريا وغزة، وكادت تنجح في اليمن.
وحتى تنظيم داعش الذي احتل الموصل في صيف عام 2014 خلال ساعات، لم تستطع ميليشيات الحرس الثوري الإيراني أن تتخلص منه لولا التدخل الأميركي، تماماً كما حصل في سوريا التي عجزت إيران فيها عن رد المقاومة وبسط نفوذ بشار الأسد الذي كان يوشك على السقوط لولا التدخل الروسي، وبالمثل في اليمن، الذي كان سيذهب لقمة سائغة لإيران من خلال ميليشيا الحوثي، قبل أن تقرر السعودية التدخل وتشكيل تحالف عسكري لتحجيم عملاء إيران وبسط الشرعية. إيران في الحقيقة لديها تسويق إعلامي جيد لقدراتها العسكرية، لكن في واقع الحال هي فشلت في العراق وسوريا واليمن.
انفرجت أمور كثيرة في العراق، وتغيرت الأحوال عما كانت عليه في السابق؛ فالاحتراب الطائفي بات أقل حدة، وارتفعت أصوات برلمانية وشعبية تنادي بمكافحة الفساد، الذي أرى من وجهة نظري أنه العدو الحقيقي لمستقبل العراقيين، وأقول ذلك لأن العراق لا يملك يداً عليا يمكن لها تنفيذ إجراءات المساءلة والمحاسبة لرموز سياسية كبيرة. حتى رئيس الوزراء - وكما يتردد - لا ترتفع يده كثيراً عن منافسيه السياسيين. هذا ما يجعل هذا الخطر في مقدمة ما قد يواجه العراق من أزمات على مدى طويل.
السعودية حريصة على العراق وعلى تقاربها على المستوى السياسي والاقتصادي والثقافي، لكنها بعيدة كل البعد عن التدخل السياسي أو الآيديولوجي، وترى من وجهة نظرها أن العراقيين سواء، مهما كانت انتماءاتهم، ولهذا وجهت دعوة إلى أبرز وأقوى وأشجع الرموز الشيعية وهو السيد مقتدى الصدر، واستقبله ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان صيف العام الماضي. وبعدها بشهرين استقبل العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، في الرياض، رئيس الوزراء حيدر العبادي مع وفد رفيع المستوى، وتم التوقيع على تأسيس مجلس تنسيق سعودي - عراقي لمتابعة التطور الجديد في العلاقة بين البلدين. واليوم يزور بغداد وفد إعلامي سعودي من رؤساء التحرير بدعوة من نقابة الصحافيين العراقية، وكان في جدول الزيارة لقاء مع العبادي الذي أكد أهمية التعاون والتعايش لتحقيق الأمن وتطوير العلاقات على أكثر من صعيد.
هذا التقارب يزعج الإيرانيين الذين تفردوا بالساحة العراقية منذ عام 2003، ويكسر سطوتهم التي بدت أنْ لا حدود لها على جميع المستويات. السعودية لا تنافس إيران على العراق، بل تهدف إلى إعادة العلاقات مع بلد عربي جار وشقيق، مر بامتحانات قاسية من انعدام للأمن وتبديد لثرواته، بل إن الرياض لم تتدخل لتسليح السنة حتى في أوجّ الصراعات الطائفية وتهميش حقوقهم كمواطنين، لإيمانها بأن مثل هذه التدخلات تزيد من شعلة النار ولن تطفئها.
العراقيون اليوم أمام درس من دروس التاريخ، واقع عاشوه واستخلصوا منه العبر، بأن العراق لا بد أن يتطهر من الوجود الإيراني، وأن تكون سيادته مصونة ضد أي تدخل. هذه الدرجة من الوعي ربما لم تصبح مبدأ راسخاً لدى الكثير من العراقيين، خصوصاً الشيعة الذين يعتقدون أنهم الحلقة الأقوى في اللعبة السياسية، لكن الأكيد أن رموزاً وشخصيات عراقية شيعية قيادية رفيعة مدركة لخطر التدخل الفارسي على هويتهم وحياتهم، وخطورة ما آلت إليه بلادهم بسبب جار السوء الذي شرذم العراقيين واستخدمهم ضمن خريطة العبور إلى سوريا، وسطا على عاصمتهم العربية بغداد بأن سمّاها عاصمة للإمبراطورية الفارسية التي يحلمون بها.
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنيه