بقلم: أمل عبد العزيز الهزاني
الطريقة التي نعرفها عن نظام الحكم في إيران، وكيف يعبر عن نفسه دولياً، أنه يصطنع الطريقة المتناقضة في الإدلاء بالتصريحات. فقد نسمع من المرشد الأعلى علي خامنئي تصريحاً عن قضية جارية، ورأياً معاكساً من البرلمان الإيراني أو الخارجية في القضية ذاتها. الهدف من التصريحات المتضاربة التشويش على الرأي العام الدولي، وتعزيز انقسام القوى الكبرى حول إيران. وقد نجحت حتى الآن في تأسيس آراء متناقضة، وبناء زوايا متقابلة حول سياستها في المنطقة.
قبل كشف قوات البحرية الملكية البريطانية تهريب إيران للنفط إلى بشار الأسد، عن طريق ناقلة النفط «غريس 1» ثم احتجازها في مضيق جبل طارق، كانت العلاقة الإيرانية الأوروبية جيدة إلى حد ملموس، وكانت الدول الأوروبية الممثلة في الاتفاق النووي هي الملجأ الوحيد لطهران، لمحاولة إحداث شرخ في الموقف الأميركي الصلب، يتيح لها تصدير النفط ولو بطرق أكثر تعقيداً وأعلى تكلفة. الأوروبيون أنفسهم عارضوا إدارة الرئيس الأميركي ترمب في عقوباته الاقتصادية الثقيلة، ببساطة لأنهم يدافعون عن اتفاقية شاركوا شخصياً في توقيعها، ومن المحرج أن يظهر الموقف الأميركي أكثر تأثيراً، ويترك الأوروبيين وحدهم يتعاملون مع الإحباط والغضب الإيراني.
إلى درجة كبيرة كان الموقف الألماني - الفرنسي - البريطاني متعاطفاً مع إيران، وحاولوا جاهدين خلق ميكانيكية مصرفية بديلة للتبادل التجاري بين الدول الثلاث وإيران، بهدف حماية الشركات الأوروبية التي تعمل في إيران؛ لكنها فشلت. كان النظام الإيراني يهدد الأوروبيين بالانسحاب من الاتفاقية إن لم يجدوا حلاً لتعويض الأضرار، وفي الوقت نفسه كان وزير الخارجية جواد ظريف يقدم رجلاً، ويؤخر أخرى في إعلان رغبته في التفاوض مع الأميركيين.
والحقيقة أن بريطانيا التي يعتقد البعض أنها مالت إلى كفة ترمب بتوقيفها لناقلة النفط الإيرانية «غريس 1» في جبل طارق، فعلت ذلك لأن الاتحاد الأوروبي يحظر تصدير النفط لنظام بشار الأسد، وليس بسبب العقوبات التي فرضتها إدارة ترمب. مع ذلك كان من المتوقع أن تحافظ طهران على علاقتها الجيدة مع الأوروبيين؛ لأنهم الطرف الوحيد المرن في المعادلة؛ لكنها اتخذت الخطوة واحتجزت ناقلة نفط بريطانية «ستينا إمبيرو» في المياه العمانية، رداً على احتجاز ناقلتها.
لكن السؤال هنا: لماذا لم تحرر إيران الناقلة البريطانية عندما تحررت «غريس 1» من جبل طارق؟ إن كانت هذه بتلك - كما أوضح جواد ظريف - فلماذا لا تزال السفينة البريطانية محتجزة؟ في رأي النظام الإيراني أن تكرار القرصنة أمر مكلف، وعرضة للفشل وربما للاشتباك المسلح، إنما احتجاز ناقلة والإبقاء عليها كما هي اليوم راسية في ميناء بندر عباس، أفضل من مهاجمة مزيد من السفن في الخليج، فالهدف في النهاية هو إرباك المشهد الأمني، والسفينة المحتجزة كافية للضغط على الأوروبيين الذين تراهم طهران أكثر مرونة وأقل صلابة في الموقف ضدها من الأميركيين.
جواد ظريف، وزير الخارجية الإيراني، طار إلى بياريتز، مقر اجتماع دول «السبع»، مدعواً من الرئيس الفرنسي، لبحث الموقف الإيراني من الأحداث الجارية، وأهمها الناقلة المحتجزة. بالنسبة لإيران، هذا المكان والزمان هو أفضل ما حصلت عليه منذ ورطتها بانسحاب ترمب من الاتفاق النووي.
في بعض الأحيان يكون الظرف الزماني والمكاني أهم من المناسبة، فالأطراف المعنية كلها حاضرة، ورئيس وزراء بريطانيا الجديد بوريس جونسون موجود، ومطالب من الجيش البريطاني بحل مشكلة الناقلة المحتجزة. وعلى الرغم من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، يظل موقف الأوروبيين مسانداً لها ومندداً بحادثة احتجاز الناقلة، وسيطلب ماكرون من ظريف إطلاقها. وهناك أخبار عن فكرة صفقة فرنسية لإيران تسمح لها بتصدير مؤقت لنفطها مقابل وقف تهديداتها للملاحة، وربما يسمح لها بتفريغ حمولة سفينتها التي تطوف البحر الأبيض المتوسط منذ أسبوع، وبيع نفطها مقابل فك احتجاز الناقلة البريطانية، إن رضي ترمب الذي يدعم صديقه جونسون سياسياً واقتصادياً أمام الأوروبيين. وإن سُمح لإيران بذلك، فهذا لن يخفف من اختناقها؛ بل يؤكد أنها وصلت لضيق مالي غير مسبوق، جعلها تخاطر بتهريب أقل من مليوني برميل نفط؛ أي نصف ما كانت تصدره يومياً قبل العقوبات، من أجل مساعدة حرسها الثوري في سوريا.
في كل الأحوال، ظريف الذي سافر سراً إلى بياريتز لبحث فرصة للتفاوض، معضلته أكبر من ناقلة، ولن يستطيع الرئيس الفرنسي أن يقدم له حلولاً لأزمته، ما لم يختر الجلوس مباشرة مع الإدارة الأميركية، وبحث خريطة طريق جديدة.
أستراليا انضمت إلى فرنسا وبريطانيا وألمانيا في تأمينها لمرور السفن في الخليج، وسيكون الوجود العسكري الدولي المكثف عبئاً على إيران. أما دول الخليج فهي أمام أحداث متسارعة تحتم عليها توحيد الموقف والجهود؛ لأن الواقع يقول إن برنامج الصواريخ الباليستية الإيراني، ووجودها العسكري في البلدان العربية أشد خطراً من الرأس النووي التي تسعى إليه.