بقلم: أمل عبد العزيز الهزاني
الازدحام في الأخبار والأفكار والتحليلات، تكاد تكون غير مسبوقة في هذا الوقت الذي يواجه فيه العالم وباءً مباغتاً، بكل تداعياته الاقتصادية والنفسية. والسبب في كثافة هذه التحليلات الواقعية منها والخيالية والمخاوف، أن محفزاتها تحيط بنا. كل خبر يعود بنا إلى واقع معيش لم تكن سلبياته ظاهرة، حقائق تتكشف كل يوم عن واقع الدول، وتعطي شهادة عن مستوى الكفاءة. لكن الأهم في رأيي، هو كيف واجهت الدول صدمة وباء (كوفيد - 19)، وأعني كيف حاولت معالجة الأوضاع الخاطئة التي لم تكن محل اهتمام في السابق. الحديث في هذا يطول ويتطور، لكن في الوقت الحالي يمكن عرض نموذج فريد غير متوقع للتعامل مع الوباء، وهو النموذج التركي الذي أثار كثيراً من علامات الاستفهام مؤخراً.
لم يكن أحد ليتوقع أن بلداً مثل تركيا، بأنهارها وجداولها وأراضيها الزراعية الشاسعة ومزارعها، تعاني من تهديد جاد في أمنها الغذائي! خبر صادم. لكن «كورونا» وضع أمامنا الحقيقة المخبأة، وهي أن القطاع الزراعي التركي يعاني منذ سنوات، بسبب قرار الرئيس التركي رجب طيب إردوغان استيراد المواد الغذائية والمواشي من الخارج بدلاً من دعم المنتجات المحلية. ولأن الدول التي تستورد منها تركيا مواد غذائية أساسية توقفت عن التصدير للخارج بسبب أزمة «كورونا»، ووجهت منتجاتها للاستهلاك المحلي، فإن تركيا ستكون أمام معضلة نقص في الغذاء خلال الأشهر القليلة القادمة، وكل إجراءات الحكومة التصحيحية اليوم للقطاع الزراعي متأخرة، وليس من المرجح سد العجز، وهذا ما يفسر ارتفاع أسعار الغذاء خاصة للمواد الأساسية كالقمح. والهدف من عرض النموذج التركي ليس للنصح بل للعبرة، بأن تجاهل موارد الدولة الطبيعية واستبدال مشروعات يعتقد أنها أكثر ربحاً بها، كبناء وحدات سكنية لبيعها إلى السياح، أو الإنفاق العسكري الكبير في سوريا لتضاهي الدول الكبرى، أو في بلد مثل ليبيا لا ناقة ولا جمل للأتراك فيه سوى حشر أنوفهم في سيادتها، كل ذلك سيعود على حياة الناس بطوام لا تنتهي.
ومع أن كل دول العالم، على مختلف مستويات قوتها الاقتصادية، تأثرت ولا تزال تتأثر بتداعيات الحماية من الوباء، وتأثر التجارة العالمية وحركة البضائع وزيادة البطالة، لكن في الواقع أن هذه المشكلات كلها كانت تعاني منها تركيا قبل الجائحة، وإحكام قبضة السلطات المطلقة على التشريعات والقوانين والنظام لم يترك مجالاً للناس للتعبير عن أنفسهم، بدليل أن الليرة التركية تتراجع منذ عامين، واليوم وصل سعر الصرف لقرابة 7 ليرات مقابل الدولار، تقريباً كما وصل في عام 2018.
كل السياسات المالية والتدخلات العسكرية التركية في ليبيا وسوريا، انكشفت سلبياتها بوضوح مع أزمة «كورونا» لكنها كانت دائماً موجودة. وبدلاً من إجراء إصلاحات واتخاذ قرارات للخروج من الأزمة بأقل الخسائر الممكنة، تفاجئنا الرئاسة التركية بالتباهي بمساعدة أوروبا بالمعونات الطبية لمواجهة الجائحة، في حين أن تركيا تعتبر أكثر دولة موبوءة في الشرق الأوسط بحسب إحصائيات رسمية في عدد الإصابات والوفيات. بعض الدول تعتقد أن إعلانها عن نسب تعافٍ كبيرة يعكس قوة النظام الصحي ويلمع سمعتها أمام الناس، وأن عدد الإصابات المعلنة محلياً تعكس الواقع، إنما الحقيقة هي ما يعيشه الناس، الواقع هو ما يشاهده الناس في الشوارع، وفي المستشفيات حيث نسب الفحوصات المنخفضة التي توهم الآخرين بتدني الإصابة.
هذا كله يمكنه أن يكون حديث منصات التواصل الاجتماعي كما رأينا في حالات مصورة في نيويورك وروما وباريس وحتى طهران. لكن حتى لا تكون هذه العيوب الصارخة في السياسات التركية محط نقاش من الشارع، أو تهز من صورتها المزيفة أمام العالم، قرر الرئيس تمرير مشروع قانون يشترط على التطبيقات التواصلية المعروفة مثل «فيسبوك»، «تويتر»، «إنستغرام» و«يوتيوب»، أن تخصص من يراجع محتوياتها وكشف هوية أي حساب تطلبه. أي أن الحكومة حاصرت حرية الناس في التعبير عن سوء أحوالهم، واعتقلت قبل أيام من تعتقد أنهم يثيرون الناس ضد ظروفهم المعيشية. المعارضة التركية لم تطق صبراً، وأعلنت أن هذا الحال لا يمكنه الاستمرار، وأن إردوغان خاسر لا محالة في الانتخابات القادمة، وأن أول ما سيفعله الحزب المنتصر هو إعادة النظام البرلماني بدلاً من الرئاسي الذي جعل بلداً كبيراً مثل تركيا بكل مواردها البشرية والطبيعية ملكية خاصة للرئيس وأسرته.