بقلم : أمل عبد العزيز الهزاني
سلطة الإعلام مخيفة، فرضها النظام الديمقراطي الليبرالي أساساً لحرية التعبير والرأي بشكل شبه مطلق، وتعلمنا ونحن نشاهد إعلام هذه الدولة كيف نحترم الإعلام خشيةً منه لا حباً فيه، فهو مرآة تعكس الحقيقة بجمالها وقبحها، كما يفترض أن تكون. لذلك هددت سطوته كبار السياسيين والاقتصاديين حول العالم، وضربوا لها ألف حساب، وتطورت الصحافة من مجرد نقل المعلومات والأخبار قبل أربعمائة عام إلى منابر تنشد الحرية ومعيار لرقي الأمم وحفظ الحقوق.
وفي الواقع، كانت ولا تزال السلطة الرابعة تتفوق على السلطات الثلاث القضائية والتشريعية والتنفيذية في ماراثون الوصول والتأثير، ومع التقنيات الجديدة أصبح الخبر ونشره صناعة دقيقة أو أقل. مع ذلك لم يكن الإعلام الغربي، كنموذج للإعلام الرصين، مثالياً يوماً ما، فقد شابه الزيف والمبالغات والتأليب والمصالح الشخصية ومحاولة تشكيل الرأي العام عكس تيار الحقيقة. في حرب فيتنام مثلاً، استسلم الإعلام لمحاولة تجميل حقيقة هزيمة الأميركيين في سايغون، وظل الرأي العام الأميركي يظن أنه متفوق ويحقق انتصارات، وحتى حينما انكشفت الحقيقة انتفض الإعلام لتجميل الهزيمة عن حرب لولاها لكانت الشيوعية وصلت إلى أفريقيا. وربما كان هذا التبرير مقبولاً لو قيل من على منصة النصر، لكن في الهزائم كل الأعذار واهية.
أما في المنطقة العربية فكان الإعلام وسيلة لتلميع النظام الحاكم وممحاة لأخطائه. تذكّروا مثلاً إعلام عبد الناصر الذي استخفّ بالشارع العربي وأوهمه أيام عدة بعد الهزيمة من إسرائيل أن العرب ينتصرون. جرأة غير مقبولة وعدم تقدير لمشاعر الشارع لتغطية حقيقة مثل الشمس يصعب إخفاؤها. إعلام صدام حسين كذلك ظل يثرثر ببطولات الجيش العراقي حتى لحظة إخراج صدام من حفرته. كله هراء.
أما اليوم، فمشكلة الإعلام باتت مختلفة، ليست في إخفاء الحقيقة، لأنه لا أحد يستطيع أن يخفيها، بالإعلام أو غيره. إنما تحولت المؤسسات الإعلامية إلى أشبه بأندية رياضية، لها ميول أخذتها عن المهنية وصرفتها عن دورها الأساسي. من غير المعقول قبول تعصب الإعلام أو ميله نحو فريق سياسي إلى حد الانزلاق في الزيف والمراوغة والتأليب.
ولأنه دائماً ما تكون الولايات المتحدة نموذج المحاكاة الذي نقيس عليه، فمنذ إعلان ترشح دونالد ترمب لمنصب الرئاسة وحتى اليوم، تكالب عليه إعلام اليسار من كل صوب، حتى إنه تجاهل عمداً أو حجّم إنجازاته على صعيد الاقتصاد وميزان الطاقة. رئيس واجه هذا الإعلام الشرس خرج من اختبار الانتخابات النصفية بانتصار تاريخي في مجلس الشيوخ، حتى وإن خسر غرفة النواب. المتوقع أن تكون هجمة الإعلام لأكثر من سنتين قضت على إرادته وإرادة حزبه، مع هذا تجاوز الاختبار وخرج فرحاً، لأسباب داخلية كثيرة، لكن أبرز الأسباب أن الواقع الفعلي يغلب سطوة الإعلام مهما طال الزمن.
كانت قناة «الجزيرة» التابعة للنظام القطري تزعم أنها منبر التعبير الحر، وعندما حصلت هجمات سبتمبر (أيلول) 2001، توطدت علاقة القناة بابن لادن، حتى أصبحت القناة منبراً له. لم يتساءل الشارع العربي من أين لـ«الجزيرة» أن تقدم الميكروفون لأشهر إرهابي في العالم، وقيل وقتها إنه سبق صحافي. استمرت «الجزيرة» في إقناع المتلقي العربي بأنها اختياره الأوحد للإعلام الحر، وصدّقها الكثيرون. ولأنها حظيت بثقتهم تلاعبت بهم، وبدأت في ضرب الأنظمة الحاكمة العربية ورفع شعارات ألهبت صدور الناس ضد حكامهم. هل «الجزيرة» اليوم هي «جزيرة» الأمس؟ راقبوا ردود فعل الناس على أخبارها، وكيف أصبحت محط سخريتهم، حتى إنها فقدت قدرتها على كتابة الخبر الصحافي من حيث التركيب اللغوي. ذهبتْ بعيداً في استعدائها للسعودية والإمارات العربية ومصر والبحرين إلى الحد الذي أصبحت هذه الدول تحتل غالبية أخبارها وموضوعات برامجها. ووجدت في قضية مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي فرصة ذهبية للضغط على الدول الرباعية لوقف مقاطعة دولة قطر، وفبركت الأخبار التي تزعم علاقة القيادة السعودية بمقتل الصحافي، خصوصاً ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الذي أصبح أيقونة عالمية للإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، ووجدت «الجزيرة» ضالّتها في الإعلام اليساري الأميركي في ترويج هذه الأخبار لضرب ترمب حليف الرياض.
الرئيس الأميركي وضع حداً لهذه الأخبار الكاذبة، بقوته الخطابية المعروفة، بتأييده للخطوات التي قامت بها الحكومة السعودية وتحقيقاتها في هذا الشأن. ولي العهد السعودي الذي كان مستهدفاً من قِبل الإعلام القطري والتركي واليساري الغربي، بدأ جولة خارجية لعدة دول منها الأرجنتين لحضور قمة دول العشرين، التجمع الأعلى شأناً دولياً، وما لبث رؤساء دول كبرى مثل ترمب وبوتين وحتى الرئيس التركي، أن أعلنوا عن نيتهم الاجتماع بولي العهد خلال اجتماع القمة. أسابيع طويلة بُذلت خلالها جهود وأموال طائلة للتأثير سلباً على صورة ولي العهد باءت بالفشل في لحظات. هذا الدرس يجب أن يكون عنواناً بارزاً في دراسة الإعلام، وهو أن الانتهازية والاستعداء المكشوف والفبركات جميعها آيلة للزوال، والزيف لا ينتصر مهما بدا قوياً وجهوراً. وكل وسائل الإعلام التي اشتركت في تسويق أخبار غير دقيقة حول الحادثة ستكون موضع حرج من متابعيها، والأهم أنها ستكون موضع شك بعد أن أوغلت بعيداً عن الحيادية والتقصي الشريف.
الإعلام بناء زجاجي كبير ومبهر، لا يُخفي وراءه شيئاً، لكنه عرضة للخدش والطرْق والكسر، وأسوأ ما فيه أن ما ينكسر منه يصعب إصلاحه.
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع