بقلم - مينا العريبي
التاريخ مليء بتجاوزات الدول العظمى، وقرارات خاطئة غيّرت مسار دول وشعوب. ومنذ أن أصبحت الولايات المتحدة القوة العظمى الرائدة عقب الحرب العالمية الثانية، والمهيمنة منذ انتهاء الحرب الباردة، اتخذت قرارات تصب في صالحها مهما كانت النتائج، عادةً من دون رادع أو حساب. ولكن هذه القرارات كانت أحياناً تصبّ في مصلحة حلفاء معينين أو تأتي ضمن نهج أوسع تريد أن تطوِّره الولايات المتحدة ليحدد مسار العلاقات الدولية أو التوازنات الاستراتيجية. وحتى إن لم تكن تلك الخطوات عادلة أو يمكن الاتفاق معها، غالباً ما تكون هناك تبريرات أميركية تُقنع غالبية الدول بما تقوم به أو على الأقل لا تواجه اعتراضات شديدة. إلا أن بين فترة وأخرى، تُقبل الولايات المتحدة على خطوات من الصعب لأي طرف أن يتفق معها، وأحياناً لا يمكن وصف تلك الخطوات إلا بالتجاوز. وعادةً تكون هذه الخيانة بحق المستضعفين، تعيد إلى الأذهان الخيانة بحق السوريين الذين تعهدت أميركا بحمايتهم وشجّعت أطرافاً مسلحة لتُشعل حرباً دموية، وتعيد إلى الأذهان خدعة «أسلحة الدمار الشامل» في العراق... وتطول اللائحة.
يوم الجمعة الماضي، أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن عن نية حكومته وضع يدها على 3.5 مليار دولار من أموال دولة أفغانستان، في حركة أشبه بالقرصنة. بالطبع الإدارة الأميركية لم تصف القرار بـ«الاستيلاء»، بل فضّلت أن تسمي قرار مصادرة الأموال الأفغانية تسميةً رسميةً مفادها «قرار تنفيذي للمحافظة على بعض الممتلكات التابعة للبنك المركزي الأفغاني لمنفعة شعب أفغانستان». ولدى البنك المركزي الأفغاني 7 مليارات دولار من الأصول في الولايات المتحدة، وقد قامت الإدارة الأميركية بتجميد تلك الأصول منذ استيلاء حركة «طالبان» على مفاصل الدولة في أفغانستان. وبينما طالبت منظمات دولية وإنسانية الإدارة الأميركية بإطلاق تلك الأموال لإيصال المساعدات الإنسانية والإغاثة للشعب الأفغاني الذي بات 97% منه مهدَّداً بالعيش دون خط الفقر بحلول هذا الصيف، أصرّت إدارة بايدن على تجميدها للأموال الأفغانية رغم الحاجة الماسّة إليها. وبموجب الإحصاءات الرسمية، يعاني 42% من الشعب الأفغاني من الفقر المدقع، و20% من الشعب يعاني من الفقر، وما تبقى من الشعب يواجه مصاعب يومية مع انهيار الدولة الأفغانية. وفي الوقت نفسه هناك مجموعة من المحامين الأميركيين المكلفين من عائلات ضحايا 11 سبتمبر (أيلول) 2001 تنظر إلى التطورات في كابل على أنها فرصة للحصول على تعويضات مالية كبيرة.
قرار مصادرة الأموال الأفغانية يأتي بعد ستة أشهر من الانسحاب الأميركي المشين من أفغانستان، حين انصدم الأفغان بأنهم فجأة أصبحوا تحت رحمة «طالبان» وانقطعوا عن العالم الذي تعهد بدعمهم خلال العقدين الماضيين.
الولايات المتحدة تتصرف كأنها لم تكن الدولة التي فاوضت «طالبان» في الدوحة لأكثر من عام ونصف، وكأنها لم تكن واعية تماماً بأن الانسحاب الأحادي من كابل سيعني حتماً عودة «طالبان» للحكم. وخلال الأشهر الستة الماضية، قامت الولايات المتحدة بإجراءات متعددة لتُظهر رفضها لتولي «طالبان» الحكم في كابل رغم أن المسؤولين الأميركيين هم الذين أشرفوا على هذه النهاية. وبموجب القرار الأخير، سيتم توزيع 3.5 مليار دولار على منظمات دولية لمساعدة الأفغان – من دون توضيح مَن سيشرف على ذلك أو يتأكد من صرفها بما يناسب مصلحة الشعب الأفغاني - و3.5 مليار دولار تبقى بحوزة الأميركيين.
من يدافع عن قرار بايدن يقول إنه مجبَر على مهادنة شعبه وانتظار قرار محكمة أميركية تنظر قضايا رفعتها عائلات ضحايا هجمات 11 سبتمبر، وتطالب بتعويضات مالية باهظة. مرة أخرى، تدفع شعوب أخرى ثمن الحسابات الأميركية الداخلية. وعلى حساب الأفغان، تبني الإدارة الأميركية الحالية محاولتها معالجة شعبيتها. كان من الأجدى أن تقدم الولايات المتحدة تعويضات للأفغان الذي قتلتهم «طالبان» و«داعش» وغيرها خلال السنوات الـ18 الماضية، إذا كانت مصرّة على استخدام الأموال لتحقيق بعض من العدالة.
من اللافت أن الخطوة الأميركية قد تعطي دعماً غير متوقع لحركة «طالبان» بتحركها هذا، إذ إن الشعب الأفغاني متّحد في رفضه للسطو الأميركي على ممتلكاته. وأصدرت حكومة «طالبان»، الاثنين الماضي، بياناً تقول فيه إنها لن تقبل القرار الأميركي وإنها قد تراجع موقفها من الولايات المتحدة بسبب القرار الأخير. وقالت إنه «في حال لم تتراجع الولايات المتحدة عن موقفها، وتواصل تصرفاتها المستفزة، ستضطر الإمارة الإسلامية أيضاً إلى إعادة النظر في سياساتها تجاه هذه الدولة». وأضاف البيان: «الإمارة الإسلامية ترفض بشدة تصرفات بايدن التي لا يمكن تبريرها، وهي انتهاك لحقوق كل الأفغان». وبدوره، وصف وزير دفاع حكومة «طالبان» الملا يعقوب، وهو نجل مؤسس «طالبان» الملا عمر، القرار بأنه «لئيم».
إنها قدرة غريبة لدى الأميركيين، أن يقوموا بخطوة تجمع بين رأي كاتبة هذا العمود الكارهة لكل ما تمثله الجماعات الإرهابية ورأي نجل الملا عمر، مؤسس «طالبان».
منذ توليه الرئاسة قبل 13 شهراً يسعى جو بايدن إلى تثبيت قدميه في واشنطن وكسب تأييد داخلي في دولة باتت منقسمة سياسياً إلى درجة تدفع البعض إلى الخوف من حرب أهلية. ويقوم بخطوات قد تقود لتداعيات خارجية كبيرة، مثل الانسحاب المرتبك من أفغانستان، على أمل كسب معارك داخلية سياسية. مع هذا، يواجه بايدن أزمة شعبية داخل بلاده. وتُظهر استطلاعات الرأي أن نحو 60% من الأميركيين غير راضين عن أدائه، في وقت وصلت نسبة التضخم في البلاد إلى 7.5%، وهو أعلى مستوى منذ 4 عقود في الولايات المتحدة. وبما أن الديمقراطيين يواجهون احتمال هزيمة كبيرة في الانتخابات النصفية في الكونغرس الأميركي، تتجه جميع الأنظار الأميركية إلى التطورات الداخلية. وتجب قراءة قرار الاستيلاء على الأموال الأفغانية ضمن هذه المعطيات؛ رئيس أميركي يعاني من تدني الشعبية يسعى لكسب بعض الأصوات على حساب ملايين من المستضعفين الأفغان.