بقلم: يوسف الديني
جائحة «كورونا» المتجاوزة اليوم مفهوم الوباء التقليدي لأسباب تتصل بسرعة الاستجابة والسيطرة والتعامل المسؤول معها، وصولاً إلى كونها حالة جديدة ذات بعد سياسي مسّ بشكل مباشر مفاهيم سياسية كالدولة والسلطة والحدود الفردانية والحريّات، هذه المفاهيم السياسية أصابها الفيروس بحكم استدعائه لمنطق الدولة، واستعادته لسلطويتها أكثر مما أصاب ترهل البنى التحتية للأنظمة الصحيّة في الدول التي تصدّرت قائمة فقدان السيطرة على أعداد المصابين، والإسراع في إجراءات العزل، صحيح أن ثمة نقداً طال النظام الصحي في دول أوروبية بدت مثقلة الكاهل الصحي، لكن ذلك لا يمكن أن يفسر تعدد الحالات في دولة مثل سويسرا، كانت أنموذجاً على مستوى البنية التحتية، إضافة إلى المساحة، وعدد السكان مقابل قدرة دولة كالصين على التجاوز والتحول إلى نموذج في السيطرة على الانتشار، دون تأمل مفاهيم تأسيسية للسلطة والدولة وعلاقتها بالفرد ضمن إطار تقييد حرّياته وإلزامه بالأصلح في أزمنة الأزمات.
جائحة «كورونا» حدث تأسيسي على المستوى السياسي والمفاهيمي لا يقل تأثيراً عن سقوط جدار برلين، وعواقبه على مستوى الاقتصاد السياسي والمفاهيم السياسية الحاكمة كالدولة والسلطة والعلاقة بالمؤسسات والأفراد بعيدة المدى، وهي تأثيرات عادة لا تظهر إلا بعد تجاوز التأثيرات المباشرة كارتباك الحياة والعلائق المجتمعية، وتفشي حالات الذعر والإشاعات والإنكار والذهاب إلى تأويلات ونظريات المؤامرة، وما يقابلها من أفكار وتخيّلات مما يدخل تحت مفهوم «الثقافة القياميّة» وأطروحات نهاية الزمان والعالم، وهي لا تخص ديناً أو ثقافة قدر أنها تعكس هشاشة الإنسان وحصانته النفسية أمام الأزمات الكبرى العامة، ولربما تجلّت تلك الهشاشة في هلع المواطنين في العواصم الغربية الكبرى التي ينظر إليها عادة كنماذج في ممارسة الحياة المدنية وأخلاقها، وسلوكهم في تكديس البضائع، وإفراغ المحلات التجارية، وتلك مسألة أخرى بحاجة إلى تأمل مماثل للتأثير السياسي .
ما كشفته جائحة كورونا أن مواجهة الأزمات الكبرى هي المعيار الأساسي لتقييم كفاءة الحكومات، ليست طبيعة الأنظمة أو شعاراتها السياسية والحقوقية، تلك الكفاءة هي مسألة إدارة مؤسسات وطبيعة علاقة النظام ونظرته لمواطنين بمعنى آخر التكافلية والشعور بالمسؤولية التامّة التي عادة ما كانت تقدم في الأدبيات المنافحة عن الحريات الفردية، وتقليص وتقليم أظافر الدولة بـ«السلطويّة»، إلا أن ما كشفته حالة «كورونا» وقبلها «كورونا» الربيع العربي، وصعود الميليشيات ومنطق الفوضى هو صعود السلطوية السياسية، وتفوّقها في ترسيخ مفهوم استقرار الدولة وأمن المجتمعات، وتحصين الداخل والاستثمار فيه .
كانت استجابة الصين وكوريا الجنوبية وسنغافورة مع الوباء استجابة سريعة ومذهلة ومسؤولة، وإن بدت أنها لم تفكّر طويلاً في تداعيات ذلك على شعور الأفراد بتقييد الحريّات، خصوصاً مع الحالة الصينية التي بدت وكأنها إفاقة سريعة بعد الأخطاء الأولى في الإعلان وأخذ الوباء بجدّية، في حين أن الاستجابة في النماذج الغربية الكبرى والتي كما تشكّل على مستوى العلامات السياسية المماثلة للعلامات التجارية أسماء مرموقة كانت مضطربة ومرتبكة وعشوائية، خصوصاً على مستوى إدارة الأزمات السياسية. وستكون هذه المسألة من أهم مفاتيح التحوّل في إعادة فهم عالم ما بعد «كورونا»، لا سيما في الدول التي تسعى إلى تحقيق الرفاه لمواطنيها، والاستثمار في عقولهم، والانفتاح على الأسواق العالمية والاقتصاد الحر .
على مستوى منطقة الشرق الأوسط كان موقف المملكة العربية السعودية منذ بداية الجائحة، أنموذجاً فريداً يعكس تلك العلاقة بين المسؤولية السياسية، والحرص على سلامة المواطنين والمقيمين على أراضيها، وتجلت تلك المسؤولية الواعية في ظهور خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان في كلمة تاريخية من أعلى هرم القيادة السعودية، لطمأنة الداخل السعودي بمسؤولية وعقلانية، وبتعبيرات أبوية حانية خاطب بها أبناءه وبناته كما وصفهم، رغم صعوبة اللحظة أكد أن تخطّي هذه المرحلة في أعلى مهام الدولة، وأهدافها في المرحلة المقبلة وقال: «سوف نبذل الغالي والنفيس للمحافظة على صحة الإنسان وسلامته، وتوفير كل أسباب العيش الكريم له».
هذه التطمينات من الملك سلمان كان لها أكبر تأثير على طمأنة الداخل السعودي، واستجابته الكبيرة في الالتزام بتعليمات الدولة بل والمطالبة الاستباقية بحظر التجول على منصات التواصل الاجتماعي الذي جاء التوجيه به لاحقاً مما شكل سابقة فريدة من نوعها على مستوى التعامل مع الأزمات بوعي ومسؤولية .
ولعل من أهم تأثيرات «كورونا» تراجع التأثير للتدخل السيادي على الدول مع تراجع مستوى العولمة السياسية المماثلة لعولمات أخرى ستتراجع ، فالتدخل السياسي الذي تجاوز سابقاً حدود الدول الكبرى إلى مجموعة من المنظمات والمؤسسات التي باتت تشكل تهديداً متنامياً بأقنعة وشعارات لا خلاف على مضامينها وإنما في تطبيقاتها، وقد رأينا منذ موجات الربيع العربي تحول شرارة تهديد «فضيلة الاستقرار» الذي بات يشكل اليوم أولوية كبرى حتى لدى عدد من الدول الغربية التي لا يمكن المزايدة عليها حتى ما قبل جائحة «كورونا»، كلنا نتذكر درس باريس والسترات الصفراء الذي مسّ مهد الثورة التي قلبت وجه العالم، والتي عانت في فترات ما من تضخم في منسوب تلك القيم، لكنها راجعت وتراجع اليوم أولوية الاستقرار والدخول في الأسواق العالمية والاقتصاد على حساب ما قد يمسّ هوية جمهوريتها مع «السترات الصفراء» التي تضيف إلى النقد المتصاعد لفلاسفة السياسة المستمر لمفاهيم وحدود علاقة السلطة والدولة بالديمقراطية والحريات وقيمها الأخرى، ومدى قدرة ذلك على تمثيل الأغلبية الصامتة، أو حتى الجماهير التي انتخبت وخاب أملها في نخبها التي لم توصل صوتها.
تراجع مؤسسات التنمية في العقود الماضية أسهم في حالة التسييس والتجهّم ضد سلطة الدولة وحدودها، فتعثر مسألة التنمية ودعم ما يحتاج إليه إنسان اليوم المصاب بإغراءات بورصات التسييس أسهم في تراجع وضعية المراكز البحثية الكبرى، خصوصاً في المجال الطبّي بسبب الدخول في نفق البيروقراطية والتكلس وعدم مواكبة المستجدات، ولأسباب تتعلق بالتمويل والإنفاق على هذا النوع من المراكز الاستشرافية .
من نافلة القول اليوم ونحن نشهد هذا التماسك المجتمعي على مستوى الداخل السعودي، في مواجهة أزمة «كورونا» رغم الشعور بالتحديات الكبرى وتأثيراتها التي لا يمكن الاستخفاف بها، أن نثمن الوعي المجتمعي السعودي للسعوديين منذ بداية الأزمة أنه على الرغم من انشغال العالم بالجائحة ظلوا مستهدفين بالإعلام المغرض وأكاذيب التضليل خاصة بعد القرارات الشجاعة المتصلة بالإغلاق الاحترازي للحرمين الشريفين والمساجد، المسنود بفتوى من أعلى هيئة دينية في البلاد، والذي لم تمض سوى أيام إلا وتبعته معظم الدول بعد أن استشعرت الخطر، وكان آخرها إغلاق المسجد الأقصى حتى الدول المتشدّقة بادعاءات النضال والمقاومة وتصدير الثورات والأزمات تبدو كسيرة عاجزة تحاول الخروج من مأزق الجائحة الذي عكس فيما عكس مأزق ومنطق الدولة وحدودها في عالم سيؤرخ لـ«كورونا» كنقطة فاصلة لما قبل وبعد بشكل أمين، ويعكس الواقع أكثر من حدث 11 سبتمبر وزخمه الذي ابتلعته الجائحة الكونية. وللحديث بقية.