بقلم: يوسف الديني
ما يفعله نظام ملالي طهران يعيد إلى الأذهان مقولة تشرشل «إذا قررت الذهاب إلى الجحيم فأسرع الخطى»، وهذا ما تبدو عليه إيران اليوم في استعدائها للأمن الدولي بعد عقود طويلة من تهديد أمن الإقليم، واستهداف دول الخليج، عبر استنفار كل قدراتها الاستخباراتية وأجنحتها الثورية ووكلائها الذين باتوا يشكلون دولاً بولاءات آيديولوجية عابرة واقتصاديات ميليشوية قادرة على خلق مناخات الحرب وارتداء عباءة الأقليات المضطهدة.
استراتيجية إيران في الذهاب إلى جحيم الحرب تقابلها قناعة راسخة من الدول الغربية أننا دخلنا زمن «اللاحرب» بمفهومها التقليدي الشامل، فتكلفة الحروب اليوم منهكة للاقتصاديات المترنحة، كما أن التجارب الأخيرة من حرب أفغانستان إلى العراق إلى أتون الملف السوري ساهمت في الإسراع بتخلّق هذه القناعة، وبشكل استراتيجي، لا سيما أن قرار تأثير الحروب على النخبة السياسية الحاكمة، التي يمكن أن تفقد كل نجاحاتها مع عثرات الحروب وكلفتها البشرية والاقتصادية والأخلاقية، بينما ترتهن الكيانات السياسية المأزومة داخلياً كنظام الملالي إلى إعادة موضعة شعبيتها وهويّتها من خلال الحروب والتصعيد والاستثمار في الخرائب مستعينة بتحالفات القوى المناهضة للهيمنة الغربية، وعلى رأسها الصين وروسيا.
ما يحدث اليوم ليس إلا جزءاً من فاتورة ثقيلة تدفعها القوى الغربية جراء إهمالها لتمدد نظام الملالي عبر عقود، وحصر الإشكالية معه في الاتفاق النووي أو أمن الملاحة الدولية، وهي قضايا على أهميتها وخطورتها تندرج تحت خانة «المصالح الاقتصادية» التي لا يمكن فصل سلوك نظام طهران السياسي في المنطقة عنها بشكل متحيّز وبراغماتي.
القوى الغربية تدفع اليوم ثمن تغييبها لحالة التداخل السياسي والاقتصادي الذي فرضه نظام الملالي، التي حذرتها منه دول الخليج مبكراً، وعلى رأسها السعودية والإمارات اللتان حذرتاها من حصر الأزمة في الملف النووي، وليس التدخل السياسي والتمدد الثوري الذي تنوء بعبئه دول الخليج منذ عقود، فالتحولات في الملف النووي هي جزء من أزمة القراءة الاختزالية للحالة الإيرانية. التمدد الإيراني والاستيلاء على عواصم دول عربية عبر أذرعها العسكرية وميليشياتها العقائدية لم يكن إلا جزءاً من جموح وصلف الجانب الأمني من ثورة الملالي يتقدمها «الحرس الثوري»، الذي بات يتدخل بشكل مباشر بفعل سياسات الإهمال الغربية في ملفات إقليمية في سوريا ولبنان واليمن، وحتى على موقف دول أخرى تمارس الحياد كجزء من الحذر من تبعات رفض سياسات الهيمنة لنظام الملالي.
ورغم إسراع الخطى إلى جحيم تقويض أمن المنطقة الذي تحث إيران الخطى إليه، ما زال الخطاب السائد في الدوائر الغربية يرهن موقفه من إيران بالاتفاق النووي، الذي بات أقرب إلى الماضي بعد الاتجاه إلى التخصيب، ومع ذلك فإعادة الجدل حول الاتفاق النووي، لا سيما من الدول الأوروبية، هو أشبه بمنح المزيد من الوقت لملالي طهران لتدعيم استثماراتها السياسية والعسكرية في ميليشياتها في المنطقة، لا سيما أن التوصل إلى مفاهمات حول الملف النووي الذي لم ولن يكون الإشكالية يتطلب وقتاً أطول بكثير من الآثار المترتبة على التدخل الإيراني في سوريا، وفي اليمن والقرن الأفريقي، هذا التدخل الذي يستغل حالة التراخي الغربي، طمعاً في تقويض المشروع الإيراني النووي، وليس في كف يدها عن العبث باستقرار المنطقة.
ما هو أخطر من أمن الملاحة والملف النووي هو ذلك التحالف الذي يترشح لكي يصبح أكثر عمقاً مع ميليشيات وأذرع تدين بولائها لطهران في مناطق كثيرة، فهدف الملالي هو بناء أقوى الروابط وأكثرها تأثيراً مع كل الكتل الشيعية والمعارضة في المنطقة، بهدف التمكين السياسي، وهو ما يعني الدخول في صدامات مباشرة مع استقلالية تلك الدول القطرية التي تسعى جاهدة لتثبيت مفهوم المواطنة في محاولة للتصدي إلى الاختراق الإيراني عبر سلاح الطائفية.
ما يتغافل عنه المتساقطون سريعاً في أحضان دعاية نظام طهران ومظلوميتها من النخب السياسية الغربية المناهضة لإداراتها الحالية، وهم في الأغلب يتحركون بناء على مزيج من النيات الحسنة والاعتراف بحجم التأثير المحدود، هو أن أي تسويات جديدة لن تكون ذات جدوى إذا ما أخفق المجتمع الدولي في التوصل إلى تسوية شاملة، لتجنب الحروب في المنطقة بكف التدخلات الإيرانية، وليس في تقييم جدوى الرد العسكري على استفزازاتها المستمرة.
الهروب من أي مغامرة عسكرية شكل الدافع السياسي لتحويل جبهات الصراع في المنطقة إلى رؤوس أموال سياسية يمكن اللعب والتحكم فيها، فالخوف من تبعات العمل العسكري ضد إيران، وانهيار ميزان التوازنات الإقليمية واستعادة إيران عافيتها سريعاً وتحولها لدولة نووية في حال فشلت أي ضربة عسكرية، إضافة إلى أن قيادة المفاوضات ضمن استراتيجية الاختزال في الملف النووي، أو أمن الملاحة، سيجعل نظام طهران أكثر إصراراً على المضي في انتهاك سيادة الدول عبر تجنيد المزيد من الميليشيات والوكلاء الجدد المنحازين للانضمام في ركب الملالي، وليس آخرهم تركيا التي تنحاز إلى معسكر الممانعة، وقطر التي تقود جحيمها الخاص في مناكفة دول الخليج، التي لن تتراجع عن قرارها الحاسم والاستراتيجي في مقاطعة تناقضات النظام القطري، قبل الانصياع للمطالب التي تزداد استحقاقاً كلما أمعنت الدوحة في لعبة الانسلاخ من ذاتها ومحيطها الخليجي.
الأكيد أن إيران في تحالفاتها الجديدة لن تستطيع النهوض بأمن المنطقة، بل على العكس من المرجح أن تزيد حجم الأزمات، بسبب هيمنة الميليشيات الشيعية، وهو الواقع الذي أصبح يتفاقم حتى بات عبئاً، لدرجة أن دولة العراق تحاول تقليم أظافر تلك الميليشيات.
حالة الإهمال لجذر الأزمة مع إيران من قبل القوى الغربية جعلتها اليوم تحاول عقلنة تهور الملالي، بعد أن استفحل الداء وبات عصياً على تلك العقلنة المستحيلة، فإيران شأنها شأن كل الدول والكيانات السياسية القائمة على آيديولوجية عقائدية أن نجاح صورتها في الخارج مرتبط بتغيير هويتها في الداخل، وهو ما لا يستطيعه النظام الذي بات مرتهناً إلى خيار «الحرس الثوري» ومنطقه المفارق لمنطق الدولة ودبلوماسيتها، كما أن هويّة الداخل بفضل حالة الارتباك في موضعة إيران خارج المصالح الاقتصادية سيقود إلى إعادة إنتاج الشعبية، لا سيما مع أول انفراجة اقتصادية أو مصالحة منقوصة مع المجتمع الدولي، بالنسبة لطهران فالملف النووي، وحتى أمن مضيق هرمز، يمكن أن يكونا كبش الفداء في سبيل الحفاظ على مشروعها الأساسي، وهو تصدير ثورتها وخلق جيوب وميليشيات تابعة لها بهدف الهيمنة، وبشكل مجنون يعيد إلى الأذهان جنون العظمة لمملكة «هرمز» البائدة.