بقلم: يوسف الديني
تحاول فرنسا جاهدة إحياء عودة إيران عن صلفها في الملف النووي التي تدرك كما باريس أنه الضمانة الوحيدة لدولة الملالي في اللعب على شره الدول الأوروبية في رعاية مصالحها الاقتصادية في منطقة يتم تجاهل الجغرافيا السياسية فيها، وتاريخ النزاعات الطويلة منذ لحظة تصدير الثورة الإيرانية ورعاية الميليشيات التي باتت لا تهدد فقط الدول المجاورة لإيران من العراق ولبنان، بل باتت تحضر في اليمن بشكل يتفوق على الفعالية في دول أخرى بسبب الرغبة في تهديد أمن الخليج.
وهو ملف لا يحضر في المفاوضات الأوروبية الناعمة مع إيران، ولذلك التناقض في النظر إلى الأزمة مع دولة الملالي ومنهجها في رعاية الإرهاب لا يمكن الركون إلى الموقف الأوروبي بشكل كبير وحتى في التذبذب الأميركي رغم قوة إدارة ترمب، بسبب أولويات أميركا في وقت ضيق لضمان أكبر قدر من المكتسبات للإدارة الحالية تمهيداً للانتخابات، وآخر تلك الإخفاقات في حصد نقاط القوة الفشل في ملف أفغانستان بعد التدخل القطري السلبي بحسب اتهامات الحكومة الأفغانية التي لا تريد لطبخة الصيغة التوافقية المستعجلة والنيئة أن يبتلع مرارتها الشعب الأفغاني.
القوى الغربية وفق سعيها المحموم لرعاية المصالح لم تدرك حتى الآن أن المنطقة ترزح تحت ركام من التحديات التي تتجاوز منطق رعاية المصالح، وبالتالي فإن تغيير الواقع بمنطق فوقي يحاول استنبات الأمن أو التغيير السياسي أو المصالحة، فضلاً عن أن أحلام الديمقراطية لا يمكن أن تؤتي أكلها في أراض غير مستصلحة لم تجف بعد من الطائفية والتشرذم والتطرف وغياب الوعي السياسي، فضلاً عن روزنامة عريضة من المشكلات الاقتصادية.
يجب للخروج من الأزمات المتراكمة في المنطقة تصحيح زاوية الرؤية لها والفصل بين المصالح الخاصة والشأن العام، أو ما يمكن وصفه بفضيلة الاستقرار السياسي في الدول التي لم تتقوض فيها مؤسسات الدولة، وأيضا في دول الاعتدال السياسي بقيادة السعودية التي تحمل على كاهلها عبء ترميم هذه الانكسارات قبل أن تولي مسألة شره ملالي طهران في اختراق حالة التجانس في الجزيرة العربية، بعد أن ذهب النظام القطري بعيداً في مجافاة التجانس والإصرار على التحالف مع الملالي بشكل براغماتي، طمعاً في تسهيل مشروعه لرعاية الإسلام السياسي والمعارضات، وإنقاذ الحليف الأساسي المتمثل في مشروع إردوغان لاستعادة العثمانية في شكلها الجديد القومي عبر يافطات إسلاموية، لا تمثل سوى بروباغندا تداعب مخيلة الجماهير المضللة بخطاب الجزيرة ونظيراتها.
الأزمة أكبر من حضور إيران، فالكيانات السياسية الغربية كما قلت تركز على الخاص - المصالح الاقتصادية وتنسى العام - ضمانة الاستقرار، فمنطقتنا تعيش بفضل شره الاقتصاد ونسيان الجغرافيا والتاريخ أكبر حالة استلاب سياسي تكاد معها تذوب الحدود الجغرافية بين الدول، بسبب ارتباك الولاءات السياسية والمواقف بدءاً من الفرد الذي بات حائراً أمام فرز هذا الكم الضخم من المعلومات والصور والفجائع وانتهاء بالمجموعات السياسية وعلى رأسها جماعات الإسلام السياسي والمعارضات السياسية التي تبحث عن استعادة الأمل في موجات جديدة من الاحتجاجات، وتقويض سلطة الدولة وتعميق ولاءاتها العابرة للوطنية والحدود.
في ظل الفراغ الكبير، الذي يمكن أن يحدثه غياب استراتيجية سياسية وإعلامية لباقي دول المنطقة (الخليج ومصر والأردن) في مواجهة مشروع الاستلاب الفكري والتضليل الإعلامي لا يمكن تعميم خطابها المعتدل سياسياً الذي لا يجد مكاناً عند الطرفين القوى الغربية المرتهنة لمصالحها الضيقة، والكيانات السياسية والفاعلين الطامحين في تقويض الاستقرار كجزء من ذلك الاستلاب، الذي يجب ألا نستخف بآثاره على المدى البعيد في ظل التمدد الإيراني والتراخي الأميركي.
إيران المحاصرة بجغرافيا السياسة وصعود أصوات ناقمة على تدخلها في العراق، وسيطرتها عليه منذ لحظة سقوط نظام البعث، تحاول الذهاب بعيداً عبر الجيوبولتيك السياسي طمعاً في امتداد جغرافيا عسكرية خارج إمكاناتها الحدودية بقصد الهيمنة العسكرية والسياسية، وهو ما يعرف بجغرافيا السيطرة، لكن ليس على طريقة الاستعمار المباشر، وإنما العمل كمظلة آيديولوجية تقويضية مستغلة التداخل الطائفي بالملفات السياسية، وانهيار مفهوم الدولة في المناطق التي تستهدفها مثل لبنان واليمن، وهو ما يعني الاستثمار في الواقع السياسي المتردي للدولتين عبر تعميق سيطرة ميليشيا «حزب الله» والحوثي، وابتلاع ما تبقى من مفهوم الدولة.
هدف إيران هو اللعب على الجيوسياسة في منطقة الخليج عبر أذرعها، ولو أدى ذلك إلى خسارة تلك الميليشيات بالكامل، لكنها نسيت في ظل غمرتها التوسعية أن اليقظة السعودية بأهدافها في المنطقة بات أمراً مكشوفاً للعالم كله، وأنها أول من سيدفع الثمن قبل ميليشياتها التي تسخرها لتحقيق أهدافها، والصاروخ الذي استهدف العاصمة السعودية هو تمهيد لتحرك القوى الدولية لإيقاف حرب مستعرة في المنطقة لا يمكن التنبؤ بانعكاساتها، لا سيما مع انتهاك نظام طهران العقوبات الدولية واتفاقات حظر الأسلحة، وتأثير ذلك على كل الإجراءات التي تقوم بها المنظمات الدولية للإشراف على الاتفاق النووي، وهو ما يطرح ضرورة المطالبة بالحصار البحري على السفن الإيرانية في الخليج أو التهريب البري عبر دول خليجية ليس في وسعها أن تبقى على الحياد بعد أن وصل الأمر إلى حالة الحرب المفتوحة.
الخيار السعودي في التعامل مع الإيراني والخطر الإقليمي هو مواجهة هذا النفوذ عبر المؤسسات الدولية والتفاهمات الدولية مع القوى المؤثرة في المنطقة، لكن حدود العقلانية السعودية مرتبط بتحرك المجتمع الدولي تجاه إيران والمشكلات التي تخلقها في المنطقة، وأي حديث عن استقرار للمنطقة خارج كف اليد الإيرانية هو حديث مرفوض، بعد أن تكشفت الادعاءات الإيرانية واللعب على خلط الأوراق.
إيران بعد العبث بالمنطقة عبر أذرعها تتجه إلى تبني لهجة دفاعية تعكس حالة القلق من ردة فعل السعودية والمجتمع الدولي، وهو ما يفسر محاولات التهدئة التي جاءت في زيارة ماكرون الذي أدان إيران في تصعيدها، وأطلق نذر القلق من مستقبل التصعيد.
حالة التصعيد في المنطقة غير مسبوقة، إلا أن الجانب المشرق في منسوب الأزمة هو انكشاف زيف الدعاوى الإيرانية ومحاولاتها في ترحيل أزمتها الداخلية إلى الخارج، ورغم كل هذا التصعيد الإيراني وخلطها الأوراق وإطلاق الأكاذيب والدعايات الرخيصة عن الشأن السعودي الداخلي، فإن السعوديين - بحسب تغريدة ترمب على يقظة المملكة تجاه المخطط الإيراني في المنطقة - «يعرفون جيداً ما يفعلون» وهو ما رأينا انعكاساته على فشل قنوات التضليل وعلى رأسها الجزيرة في محاولة الهجوم على التحالف في اليمن، والعودة إلى ملفات موسمية ومنها 11 سبتمبر.