بقلم: يوسف الديني
كان لافتاً ما قام به إردوغان من رمي آخر أوراقه التي يسعى فيها إلى ما يسمى في التسويق السياسي «استراتيجيات ترحيل الأزمات» عبر لفت انتباه الداخل التركي والعالم إلى قضية آيا صوفيا بقرار تحويله المتحف «الكنيسة البيزنطية» سابقاً إلى مسجد في قرار استنكره العالم، وخصوصاً الأمم المتحدة التي أصدرت بياناً يأسف لهذه الخطوة، معتبرة إياها تحركاً غير قانوني يدعو للأسف، كما قالت المديرة العامة لليونيسكو، أودري أزولاي التي أبلغت المندوب التركي بأن آيا صوفيا جزء من مدينة «إسطنبول التاريخية»، ومدرجة في قائمة اليونيسكو للتراث العالمي وتعد تحفة معمارية وشاهداً فريداً على التفاعل ما بين أوروبا وآسيا على مر القرون، ويعكس وضعها كمتحف الطبيعة العالمية لتراثها، ويجعلها رمزاً هاماً للحوار.
ما قام به إردوغان مدفوعاً بنهم القفز على أزماته الداخلية الضخمة، ونتائج تهوره في الخارج في ملفات الحالة السورية والليبية ودعم التنظيمات المتطرفة، وتصدير الإرهابيين إلى مناطق التوتر، إضافة إلى هشاشة الدبلوماسية التركية بسبب تصرفاته مع الجميع بمن فيهم الدول الأوروبية التي يدرك إردوغان أنه قطع آخر الآمال بشأن أي علاقات مستقبلية.
هناك الكثير من اللغط والأوهام حول مسألة آيا صوفيا بسبب تجنيد إردوغان لإعلامه وإعلام الأزمات الداعم له المتمثل في قناة «الجزيرة» وأخواتها على الإنترنت لدعم موقفه بينما تضيع الحقائق التاريخية والمفاهيم الإسلامية المتسامحة والمعتدلة التي تتعارض مع هذا التصرف الذي لا يعبر عن رعونة دبلوماسية فحسب بل إساءة إلى مفهوم الإسلام ويعد تحريضاً على صراعات الحضارات وموجات من الإسلاموفوبيا كما هو الحال مع ذات السلوك من قبل الجماعات المتطرفة والإرهابية في لعبها على ورقة الاستفزاز وعبر المكونات التاريخية والآثار والمسائل الحضارية.
آيا صوفيا في الأصل كنيسة تعتبر من أهم أيقونات التراث البيزنطي، قبل أن تتحول إلى مسجد من قبل العثمانيين، ثم عودتها كمتحف في عهد أتاتورك، وتعني الكلمة باللغة اليونانية «الحكمة المقدسة».
تاريخياً ليست آيا صوفيا إسطنبول هي الأولى، بل هناك 5 كنائس بيزنطية مكرسة لما يعرف بالحكمة المقدسة؛ آيا صوفيا في تركيا، وأيضاً في مدينة طرابزون التي كان يسكنها الإغريق.
على مدى العقد الماضي تم تحويل 4 كنائس آيا صوفيا إلى مساجد ضمن مشروع إردوغان وحزب العدالة والتنمية (الإسلام السياسي) في تحويل الهويّة الثقافية لتركيا لهدفين أساسين؛ الأول بناء وترميم صورة إردوغان كزعيم في العالم الإسلامي بعد فشله المتكرر في ملفات خارج تركيا ومنها موضوع استعادة الآثار العثمانية في مكة أو حتى ملف «تدويل الحجّ» الذي حاول تسويقه بدعم من الإعلام القطري من دون إحراز أي نجاحات، حتى ما بعد جائحة «كورونا» والموقف العقلاني من السعودية الذي ثمنته منظمة الصحة العالمية في الحفاظ على أرواح الحجاج المسلمين، وهذا ما يفسر حرص إردوغان لاختيار هذا التوقيت بالذات.
السبب الثاني هو الانتقام من الاتحاد الأوروبي والعالم الغربي بسبب انكشاف مشروع إردوغان في المنطقة، إضافة إلى ملفه السيئ في دعم الإرهاب والتنظيمات المسلحة في سوريا، ثم نقلها إلى ليبيا، ما جعل فكرة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي مستحيلة خصوصاً مع تصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون الأخيرة.
يعود سبب الاهتمام بآيا صوفيا إسطنبول أكثر من غيرها من الكنائس التي تم تحويلها إلى مساجد في تركيا إلى قيمتها التاريخية لأنها الأهم؛ حيث بنيت في القرن السادس الميلادي، وتوصف بالسيدة العجوز العظيمة للمشرق، وتلقب في الأدبيات المسيحية «تاج إسطنبول المقبب».
تحويل آيا صوفيا إلى مسجد وليس إلى متحف جاء بسبب استئناف تقدمت به منظمة غير حكومية تابعة للعدالة والتنمية، هذا الاستئناف سعى إلى نقض حكم صادر من المحكمة الإدارية العليا في تركيا صدر عام 1934 بتحويل الكنيسة إلى متحف.
صدّق إردوغان على قرار الاستئناف وكان هذا متوقعاً من المراقبين والمهتمين برصد مشروع إردوغان في إعادة تدشين العثمانية الجديدة؛ حيث سبقت هذا القرار تصريحات لإردوغان العام الماضي في خضم بنائه لصورته السياسية المتعثرة بقوله: «استخدام آيا صوفيا كمتحف خطأ كبير».
قبل شهر وفي توقيت حساس يصادف ذكرى محاولة الانقلاب عليه، اقترح إردوغان إقامة الصلاة داخل آيا صوفيا لتعزيز صورته السياسية وكجزء من الشعبوية الإسلاموية التي يستخدمها في تمرير مشروعه.
لم تكن آيا صوفيا مسجداً قبل تعدي العثمانيين عليها إلا بعد أن حولها العثمانيون عام 1453 بعد الاستيلاء على إسطنبول وأطلقوا عليها «سار محمد» تيمناً بالسلطان محمد (21 سنة)، الذي أمر بتحويل الكنيسة بعد 5 قرون من إنشائها إلى مسجد وطمس معالمها وآثارها الحضارية العريقة قبل أن يعيدها كمال أتاتورك كمتحف وتعود فسيفساء واجهتها الشهيرة للضوء لأول مرة.
الانهيار الاقتصادي لأداء إردوغان في الداخل ومشروعه العسكري في سوريا وليبيا وإخفاقاته في الدبلوماسية الكارثية، ساهمت كلها في تراجع صورته التي بناها في الداخل؛ خصوصاً بعد تشييده لقصره المؤلف من 1100 غرفة، والفساد المالي الذي تكشف في عدد من الشخصيات التي عينها من أسرته، وهو ما جعله يبحث عن قضية كبرى في الداخل والخارج يستطيع عبرها إعادة صورته عبر الشعارات الدينية والقومية واستعداء الدول التي فشل في النيل منها سواء الدول الغربية أو السعودية ودول الاعتدال الإسلامي العربي.
استطلاعات الرأي في الداخل التركي بحسب تقرير «الإيكونوميست» البريطانية ستدعم هذا التحويل؛ خصوصاً أن إردوغان يستخدمه كشعار لاستعادة الأمجاد العثمانية، وهو ما يعني الجمع بين الدعاية الإسلامية للخارج والقومية للداخل، لكن الاستطلاعات أيضاً تؤكد أن الحكومة استخدمت هذا الملف في هذا التوقيت لصرف الانتباه عن المشكلات الداخلية؛ خصوصاً الاقتصادية. كما تتحدث التقارير عن رغبة إردوغان في إجراء انتخابات مبكرة بعد عامين فقط من آخر انتخابات.
يترافق هذا القرار الذي من شأنه رفع منسوب القومية والشعور بالانتماء ليس عند أنصار إردوغان المؤدلجين من أنصار الإسلام السياسي وإنما الوجدان التركي العام الذي يمكن صرف انتباهه عن الإخفاقات السياسية والاقتصادية بملف قومي؛ خصوصاً بعد حملات إردوغان القمعية التي ارتفعت بعد جائحة «كورونا»؛ حيث تم اعتقال 3 نواب معارضين وصحافيين بتهم التجسس والإرهاب، وحُكم على 4 من نشطاء حقوق الإنسان، بمن فيهم اثنان من منظمة العفو الدولية، بالسجن لفترات تتراوح بين سنتين و6 سنوات. كما فرضت السلطات على عدد من القنوات التلفزيونية المعارضة حظراً مؤقتاً على البث وأغلقت جامعة مرتبطة برئيس وزراء سابق أصبح الآن أحد خصوم إردوغان السياسيين. الإغلاق انتهى، وصولاً إلى حظر القنوات وصوت الإعلام السعودي وإعلام دول الاعتدال.
بحسب سونر كاجابتاي، من معهد واشنطن لتحليل السياسات: «أتاتورك لا ينقد مسجد آيا صوفيا وإنما يريد التأكيد على عدم التزامه بالعلمانية وعدم تسييس الدين في الفضاء العام».
في المجال السياسي ستكون تكلفة صورة إردوغان وحزبه السياسي عالية؛ خصوصاً خارج إطار سياساته الفاشلة وتحديداً في مجال التسامح الديني، وحوار الحضارات، وهو من شأنه تأليب كل المجتمعات المسيحية ضد الإسلام بما يتجاوز ما فعلته «طالبان» مع تمثال بوذا أو ما فعله «تنظيم داعش» مع التراث الإسلامي والمسيحي في العراق وسوريا، يدرك إردوغان بمشروعه المتطرف والمتحالف مع الإرهابيين بأن أسهل الطرق للفت الانتباه هو القيام بخطوة تمسّ التاريخ والحضارات والأديان لأنها تضرب عصفورين بحجر واحد؛ استفزاز العقلاء وجذب تعاطف المتطرفين، بينما هذه الازدواجية تضرب الاثنين معاً لعلمهم بأنه شخصية مضطربة لا يمكن الوثوق بها وبمصداقيتها.
في الحلقة القادمة سأستعرض وجهة النظر الشرعية من العبث المؤدلج في قضية إردوغان بما أنه يحاول الزجّ بصورة الإسلام والدفاع عنه لجذب أكبر عدد من المناصرين.