بقلم - يوسف الديني
لا تغزُ أفغانستان ولا تحارب من ليس لديه أي شيء ليخسره، هذه الجملة هي درس المائة عام الماضية، الذي كثفته الأيام القلائل الفائتة منذ اندلاع «طوفان الأقصى» وما تبعه من انقسام هائل على كل المستويات وغياب للعقلانية بين أطراف النزاع ووكلائهم المباشرين إسرائيل والولايات المتحدة من جهة، ومن جهة أخرى تيار الممانعة تتقدمه إيران و«حماس» التي ألقت بكل أوراقها في أتون في الاستثمار في تقويض الأوطان الذي يديره الحرس الثوري وفق ثنائية استبدال وجه الدولة (اللهيان) بقناع الثورة لتنسيق الجبهات وتحريك الأذرع في العراق ولبنان واليمن ولاحقاً غزة.
وبين هاتين المقاربتين المدمرتين تصطف دول الاعتدال، في مقدمتها السعودية، والمنظمات الحقوقية، والتيارات الفاعلة في الدول الغربية، وكثير من الجماهير العربية والإسلامية والدولية، ضد آلة القتل الوحشية التي تمارسها إسرائيل، والتي تستهدف الجميع دون تمييز، وبالطبع دون أي شرعنة أو قبول بـ«حماس» اليوم التي هي نتيجة لاختيار لم يكن وليد الأمس بعد أن خرجت من المعادلة السياسية والمنافسة مع السلطة إلى اختيار خط تفعيل الفصائل على الأرض ومحاولة شرعنة عملها من الخارج عبر القيادات المتلبسة بالخطاب السياسي وآلة ضخمة من الإعلام الموازي الداعم لها، الذي بات يشكل حالة ضغط هائلة تجاه اتخاذ موقف مضاد لخياراتها العسكرية على طريقة الغنم لإيران والغرم على دول الاعتدال.
لذلك كان من المهم أن نثمن تماماً الإصرار على مقاربة ثالثة تتمثل في التركيز على فلسطين وغزة، وهي إدانة انتهاكات إسرائيل ضد المدنيين والأطفال والفلسطينيين العزل وتدمير البنى التحتية طمعاً في نصر سريع ضد «حماس» ومكاسب انتقامية، وهذا بالضبط ما سيزيد ويفاقم حجم الأزمة مع احتمالية توسعها وانفلاتها لتشمل مناطق أخرى تحول المنطقة إلى كرة ملتهبة لا يمكن إخمادها، ومن هنا أصبح الفلسطينيون بسبب هذا السلوك جزءاً من أثمان الفعل وردة الفعل بعد أن تم جرهم للمشهد دون اكتراث بأرقام الضحايا وحجم الدمار، وهذا ينسحب على إسرائيل بالدرجة الأولى بخلق حالة انسداد سياسي ومشروع القتل الجماعي لأهالي غزة واستهداف الجميع في فلسطين بالتضييق وتثوير المستوطنين ضد الفئات التي تعيش في أراضي 48 في تأكيد على أنها حرب الجميع ضد الجميع، ومع ذلك لم تقم أي دولة حتى الآن بشرعنة ما قامت به «حماس»، وكانت مواقفها حتى في عز تعاملات إسرائيل مع الحركة لتقسيم الحالة الفلسطينية ضد انحيازها لمعسكر الممانعة وعدم الاكتراث لمشروع طهران في تقويض استقرار المنطقة عبر أذرعها العسكرية وميليشياتها التي تبلغت المئات اليوم في مسمياتها وعشرات الآلاف في كوادرها.
تدمير غزة واستهداف المدنيين اليوم مرشحان للازدياد في ظل محاولات إسرائيل التوغل البري داخل غزة بعد الانتهاء من تدمير المناطق المتاخمة على غلاف غزة، والتردد في الدخول للمناطق الأكثر عمراناً قبل تسويتها بالأرض خوفاً من التكلفة تجاه جنودها مهما كانت التكلفة تجاه المدنيين في غزة على طريقة استخدام القوة المفرطة لتقليص حجم وفاتورة المخاطر، وهو صعب التحقيق مع وجود الأنفاق في جنوب وشمال القطاع، وصعوبة فرز قيادات أو عناصر «حماس» ضمن مليوني مدني، كلهم اليوم مجرد ضحايا وأرقام في ظل دعم الولايات المتحدة والحكومات الغربية التي ستكون من أكبر الخاسرين في أول كشف حساب بعد انتهاء الأوضاع بسبب حالة استيقاظ الهوية وخطاب التمييز والعدالة في صفوف الأجيال الجديدة من الذين يتأثرون بالصورة التي باتت أكثر تأثيراً من كل الخطابات المشرعنة، لهذا القتل المجاني واليومي للأبرياء، الذين قد يتحولون بسهولة إلى عناصر يائسة تنتقل من مربع مكابدة الحياة والجوع والفقر وتوابع الحصار إلى مربع الانتقام لأهلهم وذويهم الذين قتلوا أمام أعينهم.
اليوم هناك خطاب مضمر في مؤسسات صناعة القرار السياسي والفاعلين في المجتمع الدولي والمؤسسات الغربية بضرورة إعادة النظر تجاه الدعم اللامحدود وغير المشروط لإسرائيل، يتخذ خطاب التحذير من كارثة إنسانية وضرورة البحث عن الجذور والمآلات والحلول بدأ بقنوات تفاوض غير معلنة ومحاولات لتغيير آلية العدوان في غزة، ويترافق ذلك مع وجود أصوات إسرائيلية تصر على ضرورة التفكير في موضوع الرهائن وعواقب التدخل البري، ومع هذا الخطاب المضمر فإن الوضع يتجه لمزيد من التأزيم واللامبالاة بعواقب السلوك التدميري الذي تمارسه إسرائيل وليس لديها إلا سيناريو الإصرار على اقتحام كل بيت في غزة وسط الركام والقبض على عناصر «حماس» وكوادرها وهم بالآلاف، وهذا شبه مستحيل، حتى مع القيام بمجزرة تجاه المدنيين في سبيل تحقيق ذلك أو محاولة تكرار نموذج حصار بيروت الغربية عام 1982 من دون مبالاة بأي عواقب على عموم العالقين في غزة بهدف إرغامهم على الخروج، لكن إلى لا وجهة بعد الموقف المصري الرافض للتهجير، وزيادة حالة الضغط من قبل دول الاعتدال على ضرورة الوقف الفوري للقتل الجماعي والتحذير من تبعات الغزو البري، إضافة إلى اتساع رقعة الشعور بـ«الخزي» في كثير من الأصوات العاقلة الغربية رغم استنكارها لآيديولوجيا «حماس» وارتهانها لمشروع الممانعة.
الأكيد أن الشرق الأوسط اليوم أمام منعطف جديد، لا يقل في تحدياته على مستقبل الاستقرار، عن «الربيع العربي» الذي كان نتيجة محاولة فاشلة لاستنبات الديموقراطية، بينما ما يحدث اليوم محاولة أكثر فشلاً لاستنبات سلام غير مشروط أو عادل، الأول كلف العديد من الدول استقرارها وأوقعها في دوامة من الفوضى، والثاني سينقل مستوى المواجهة بين أذرع طهران وإسرائيل والولايات المتحدة إلى حالة انكشاف وإمكانية دخول قوى أخرى على الخط من الصين إلى روسيا، وهنا سنعود إلى تحويل جزء كبير من الدول العربية، لا سيما المتاخمة لمناطق الصراع، إلى نموذج أفغانستان «عربستان» لكن دون «طالبان» يتم استهدافها ثم تنصيبها مجدداً بعد السأم من المنطقة.