بقلم - يوسف الديني
قبل عقدين من الآن أصدر أسامة بن لادن، زعيم تنظيم «القاعدة»، أن الأحداث، يعني 11 سبتمبر (أيلول)، قسمت العالم إلى فسطاطين لا غير، واليوم يريد محور الممانعة الذي تقوده إيران وتحاول تسويقه على الجماهير في العالم العربي والإسلامي، والحكومة اليمينية المتطرفة في إسرائيل وجمهورها في العالم الغربي، ألا نرى ما يحدث إلا عبر هذه الثنائية، وهو بعيداً عن الخوض في تفاصيل الأحداث وما يجري وإعطاء أي أحكام قيمية يقينية فيها الكثير من التبسيط يمثل أخطر ما أنتجه مغامرة «حماس» الاستثنائية في توقيتها وحجمها وعواقبها وردة فعل الكيان الإسرائيلي والمتعاطفين معه الذين تسببوا بـ«طوفان من الفوضى»، لا علاقة للأقصى أو قضية فلسطين العادلة السابقة على اللاعبين الأساسيين في هذا الطوفان والباقية حتى بعد خروجهما من المشهد.
اليوم نحن بحاجة إلى «فيزياء سياسية» تتسم بالواقعية الشديدة لتصور ما حدث بعيداً عن التعميمات والاستقطاب والانحياز النابع عن الخوف من المجهول أو الغرق في نظرية المؤامرة بسبب حالة المفاجأة واللامعقولية، ولذلك هناك حقائق أولية لا يمكن التنازل عنها لفهم ما جرى في إطار التحليل السياسي المجرّد وبعيداً عن سياق الحقوق والعدالة والأخلاق وهي أمور مبدئية ومهمة لكن وضعها في سياق التحليل السياسي لما حدث لا يساعدنا في فهمه أو اتخاذ موقف لاحق.
ما حدث كان استثنائياً ومفاجئاً وتم الإعداد له بشكل مسبق، ولا يمكن أن تنفرد به «حماس»، لكنه يأتي في سياق الانفجار لأزمة عمرها عقود وانتظار لحظة للتعبير عن الانسداد السياسي وغياب الحل، فمنذ قرار التقسيم الذي قضى بحصول الفلسطينيين على 57 في المائة من فلسطين التاريخية إلى 11 في المائة فقط هو ما نتحدث عنه الآن لو تم اتفاق حل الدولتين اليوم أو غداً ومع ذلك العودة إلى ميثاق «حماس» أو خطاب اليمين التوراتي المتطرف في إسرائيل يرفع شعار إما «الكل» أو «لا شيء».
السؤال الذي يتم طرحه اليوم في مراكز الأبحاث والقراءات للحدث من زاوية سياسية لا مسيسة تؤكد على تحولات كبرى في الحالة الفلسطينية نتيجة إهمال حل الدولتين وضعف السلطة وحالة ارتداد غريبة حيث تتراجع شعبية «حماس» في قطاع غزة وازديادها في الضفة والمخيمات وفي الدول الحدودية خارج فلسطين، ومن هنا فإن الحديث عن سحق «حماس» وتدميرها «أمر غير واقعي»، حسب تعبير إيهود بارك الذي قال في تحليل مطول نشرته «الإيكونوميست» أن ما يحدث: «أكبر فشل في تاريخ إسرائيل»، وأن استراتيجية إسرائيل جاءت بنتائج عكسية تماماً، لأن الوفيات كانت في الغالب من المدنيين، ولأن الدولة تخلت عن التزامها الأساسي تجاه مواطنيها – وهو إبقاؤهم على قيد الحياة – كان هذا أسوأ أنواع الإهمال»، وبالمناسبة باراك جرب الاجتياح البري لقطاع غزة من قبل.
إسرائيل لا تواجه «حماس» الأمس بل «حماس» اليوم، وهي اختارت أن تنضم إلى محور الممانعة الإيراني وتصبح وكيلاً له في المنطقة باعتراف الطرفين، ونفي طهران معرفتها بساعة الصفر للتنصل من تبعات التصعيد، وهو ما يعرف في مفاهيم الحرس الثوري بـ«إدارة وتوسيع الجبهات». وحسب تقرير مطول نشرته «رويترز» عن «حماس» بعنوان «كيف بنت حماس جيشاً صغيراً سرياً»، وهي محاطة بشبكة دعم سرية تتجاوز القطاع الصغير لتشمل شبكة دعم إعلامي وتدريبي وتسليحي وأكاديمية تدريب تضم مجموعة من التخصصات بما في ذلك الأمن السيبراني، وتفتخر بوحدة كوماندوز عسكرية بحرية ضمن جناحها الذي عاد إليه 40 ألف فرد تقريباً بعد أن كان أقل من 10 آلاف وفقاً لـ globalsecurity.org، وشبكة الدعم تبدأ من طهران، ويتواءم الدعم مع أذرعها في لبنان والعراق واليمن ويستثمر في الشبكة الأوسع في الخارج من المتعاطفين معها، وبحسب علي سترة من قياديها ممن تحدثوا في التقرير: «الحاجة أم الاختراع»، وأن حالة الإهمال لأي حل مع الضغط المتزايد على الأوضاع في القطاع والانسداد السياسي في عموم فلسطين مما أنتج عملاً امتد لسنوات بانتظار لحظة انفجار مرتبطة بإعادة تصفير الأزمة وإدخال الفاعلين في فلسطين كجزء من الأزمة والحل لكن بأثمان باهظة جداً للأسف على العالم والمجتمع الدولي بشكل أكبر، حيث حالة الهلع والإسلاموفوبيا والتشظي ستطول المجتمعات الغربية التي لديها ما يكفيها في أزمات الاندماج مع مواطنيها من أصول عربية وإسلامية، وبدرجة ثانية مع الدول الحدودية مع فلسطين التي تعيش حالة تهديد وجودي مع هذا الاستقطاب الكبير، وبدرجة ثالثة دول الخليج، في مقدمتها السعودية التي منذ لحظة المؤسس الملك عبد العزيز (طيب الله ثراه) ولقائه الرئيس الأميركي روزفلت عام 1945 على متن إحدى السفن الأميركية كان الحديث الأكبر القضية الفلسطينية، وزرع اليهود في فلسطين كبلد بديل لليهود. ونشر مؤخراً في «واشنطن بوست»، نقلاً عن وليام إيدي الخبير الأميركي في العلاقات العربية، أن موقف السعودية اليوم الذي جسده سمو الأمير محمد بن سلمان بوضوح، حيث شخص الأزمة بشكل واضح على مستوى التشخيص والحلول، حيث تمثل بـ«رفض استهداف المدنيين العزل، ومنع حدوث كارثة إنسانية، والتوقف عن خرق القانون الدولي، والدفع بعملية السلام»، ولذلك ورغم كل التعقيد غير المسبوق فإن الحاجة اليوم إلى أن يرفع عقلاء العالم من كل الأطراف صوتهم لرفض ثنائية الفسطاطين والمطالبة بحل عادل قبل أي حديث عن السلام، وهذا ما رأيناه في منطق دول الاعتدال من مصر والأردن إلى السعودية وعقلانيتها وصرامتها مع كل الضغوط الغربية والجنون الإسرائيلي، هناك فسطاط ثالث تمثله ويمكن أن تقوده الرياض.