بقلم - يوسف الديني
الموقف من الاحتلال وكرامة النفس الإنسانية واستهداف المدنيين وقتل الأطفال الخدج، ثوابت ومشتركات إنسانية هي اليوم في خطر كبير جداً بسبب تخاذل المجتمع الدولي عن إيقاف الحرب الوحشية والهمجية التي تقوم بها إسرائيل على طريقة الحرب الوجودية من دون تحقيق أهدافها تجاه «حماس» التي لا يمكن تبرير مغامرتها أو اعتبارها المعادل الموضوع لغزة وأهلها، ولكن يمكن فهم مغامرة 7 أكتوبر (تشرين الأول) في سياق الحصار والانسداد السياسي مع رفض استهداف المدنيين والأبرياء، وهذا يجب أن يقال رغم أنف الشعبوية وصوت الشارع الذي يفقد كما هو حال اليمين المتطرف «المشتركات الإنسانية» التي تعيش أكثر أوقاتها حرجاً، كما هي الحال خطاب التطرف الذي يعيش أكثر أوقاته انتعاشاً (التطرف اليميني الصهيوني) الذي وصل على عكس الخطاب العربي الإعلامي السائد إلى مناطق غير مسبوقة، ومنها اليسار الداعم للسلام، كما هي الحال التطرف في الضفة الأخرى الذي يبرر قتل المدنيين ويدعم الميليشيات، ويراجع مسائل خطرة تحصد عمل عقود من نقد مشروع إيران ثم «القاعدة» وأخواتها.
اليوم هناك حاجة إلى إعادة ترميم المفاهيم الإنسانية في نسغها الأول والبسيط وإعادة ترميم بنائها الذي تهشم من خلال استهداف «الخدّج» أو المفاوضات على الماء والغذاء والحاجات الأولية في مقابل ملفات سياسية، ولذلك فإن الحديث عن دولة فلسطينية مستقلة مهما كانت النتائج على الأرض هو أول لبنة في أي حل لحالة الانسداد السياسي غير المسبوقة التي حاول الكيان الإسرائيلي الالتفاف عليها من خلال محاولات غير قانونية للاستيطان والتوسع والتضييق على الفلسطينيين أو إبرام اتفاقات سلام أحادية، ظناً منهم أن ذلك سيهمش أي مطالبات بدولة مستقلة تمثل الحركات الوطنية في فلسطين، وإعادة فهم الداخل الفلسطيني ضمن نظرية أوسع من التمثيل و«النسيج» والتأطير لصوت المجتمع والناس، بعيداً عن مأزق الصراع الفلسطيني الفلسطيني، أو الرأي الأحادي الذي يحاول الإعلام المنحاز المؤدلج تمريره كصوت واحد، وهذا تحد كبير على «دول الطوق» بالأساس والدول العربية والإسلامية في المنطقة بدرجة ثانية، خصوصاً دول الاعتدال وفي مقدمتها السعودية التي تستشعر صعوبة الملف، لذلك حرصت في كل مقارباتها للقضية ما بعد 7 أكتوبر على إدانة ردة الفعل وتشخيص الأزمة ضمن سياقها الأساسي الطويل، وهو الاحتلال وغياب حل الدولتين، كما هي الحال في تشخيص الحل الآن وليس بالحديث عن اليوم التالي للحرب، وإنما عن ضرورة إيقاف فوري لإطلاق النار قبل أي سيناريوهات مستقبلية، وهو تصور يستحضر مسألة مهمة يغفل عنها الكثير من المعلقين، وهي العبء والإرث الكبير للانسحابات الأميركية من المنطقة من أفغانستان إلى إرث عائلات «داعش» في شمال سوريا إلى الارتباك في التعامل مع الميليشيات في المنطقة، وهو أمر تؤكد السعودية في كل مرّة أنه يجب ألا يخضع للازدواجية السياسية والتحيّزات المتصلة بالمصالح واستراتيجية التخلّي والاكتفاء بالعقوبات، بل يجب الاستماع جيداً للمخاوف الكبرى لدى الاعتدال في المنطقة، من نشأة أجيال يتم استقطابها نحو التطرف وتغذيته من خلال الكوارث السياسية والملفات العالقة أو سياسات الانسحاب والانكفاء، وهو أمر اليوم لا يخص دول المنطقة، بل يطال العالم كله، بسبب عولمة الحالة الفلسطينية باعتبارها قضية عادلة حتى خيارات الداخل الأميركي، فاليوم يتحدث الكثيرون عن تأثير المظاهرات الكبرى التي تشهدها المدن الأميركية في مختلف المحافظات، وأغلبها من أجيال جديدة محسوبة على معسكر الديمقراطيين، لكنها قد تتسبب بخسارة بايدن للانتخابات الرئاسية المقبلة 2024، خصوصاً في ولايات مؤثرة مثل ميشيغان وأوهايو وبنسلفانيا.
وخارج الصورة الداخلية للولايات المتحدة فإن الصورة الخارجية أكثر قتامة رغم قناعة العديد من النخب العربية والخليجية بأن ما يقال عن البديل الصيني أو الروسي للتوازن السياسي، فيه الكثير من المبالغات، وأيضاً لا يخلو من عيوب ونواقص كبيرة، لكن الأكيد أن هيمنة الولايات المتحدة وأوروبا اليوم قد انتهت بسبب الموقف المتحيّز، ليس ضد قضية عادلة فحسب، ولكن عبر التصويت ضد وقف إطلاق النار في الجمعية العامة للأمم المتحدة (أي ضمن الدول الأربع عشرة التي عارضت وقف إطلاق النار، فيما صوّتت 120 دولة لصالح القرار)، ما قوّض كل التشدق بأي معايير أخلاقية أو الحديث عن مشترك مبادئ ومرجعية قانونية حاكمة على مستوى العلاقات الدولية، فمن هدد روسيا بشأن أوكرانيا وأرسل رسائل شديدة اللهجة للصين تجاه تايوان، فشل اليوم في وقف قتل الأطفال والخدّج وتهجير الأبرياء وحصارهم ومنعهم من الدواء والغذاء، وهذا الفشل يلغي كل ما يقال حول قيم عالمية إنسانية مشتركة، حيث إن مجرد قراءة الخطاب الرسمي الأميركي والأوروبي والخطاب الشعبي تقودنا إلى معرفة حجم الانفصال والفجوة العميقة فيما يتعلق بالمواقف من القضايا العامة، فالعقلاء والشرفاء من حول العالم لا يمكن لهم أن يمرروا المبررات التي يطرحها الساسة الأميركان في الخطابات الصحافية المحرجة لقتل الأبرياء في فلسطين، بل يعتبرونها غطاء لإبادة جماعية بزعم ملاحقة «حماس»، وإطلاق الرهائن الذي لم يتحقق ويبدو أنه صعب التحقيق من ناحية نظرية وواقعية إذا ما فهمنا مسألة النسيج وسياق «حماس» الطويل رغم التأكيد كل مرة على نقد مغامرتها أو استهدافها للمدنيين.
الأكيد أن كل حديث عن مرحلة الـ«ما بعد» والترويج لأطروحات اليوم التالي معضلة أخرى أيضاً، تزداد صعوبة مع تضخم أعداد الضحايا من الأبرياء والأطفال، لأنه سيساهم في تعقيد الحل على الفلسطينيين في غزة وباقي المناطق، وهم المعنيون بالدرجة الأولى، كما أن الدول العربية لا يمكنها أن تثق أو تقتنع بجدوى أي حلول تراعي المصلحة الإسرائيلية وتعقد الوضع في فلسطين وتزيد من معاناة أهلها، ويمكن القول إن كل الأطروحات المتصلة بالمفاوضات والخطط المقترحة ومنها أسلوب الهندسة العكسية (reverse engineering) ابتكار الحل من خلال التموضع على الهدف، ثم البحث عن آليات تنفيذه، ليست مجدية مع ازدياد فاتورة الضحايا، حيث لا يمكن اجتراح حلول سهلة لواقع إنساني مؤلم جداً، كالذي نراه صوتاً وصورة في كل لحظة اليوم!