بقلم: يوسف الديني
من الطبيعي أن تتجه معظم التحليلات والموضوعات والمحتوى الإعلامي نحو تداعيات أزمة «كورونا»، التي ما زال العالم عالقاً فيها، إما على مستوى الحالة اليومية وإدارة الأزمة، وإما على مستوى التداعيات الاقتصادية والأمنية والقلق من التراجعات الحادّة في مفهوم الاتصال البشري، «حجر الأساس» في منظومة العالم الحديث، الذي كان قبل عاصفة «كورونا» غير المتوقعة وأزمتها السحيقة يوصف بـ«القرية الصغيرة المتشابكة»، التي باتت مشتبكة بعد «كورونا» على نحو فككّ قواعد اللعبة وتبعات التواصلية الإنسانية على مستوى النقل والحدود والأولويات، التي باتت سواء على مستوى الدول أو الأفراد وما بينهما من منظومات متنوعة، تتجه نحو مزيد من الانكفاء على الذات والتفكير في أولويات مرحلية شديدة التعقيد ومليئة بالتحديد.
وربما أيضاً بإزاء الحالة الطبيعية في تتبع وترقّب مآلات «كورونا» اليومية، أن تتجه مراكز الأبحاث والتخطيط وصناعة الرؤية المستقبلية باتجاه «ما بعد كورونا»، لا على طريقة التفاؤل غير المسؤول، بل في محاولة لتجاوز اللحظة الآنية وتبعات اللحظة إلى ما بعدها، وهو ما يعرف بالدراسات الاستشرافية أو علم المستقبليات Futurology المختص بالبحث في الممكنات والاحتمالات القادمة ذات التأثيرات البالغة على حياتنا. وعادة تهتم شركات الأعمال بهذا النوع من الدراسات، رغم عدم يقينيتها Uncertainty، لكنها تعطي مؤشرات مهمة جداً على مستوى ملفات اقتصادية واجتماعية وديموغرافية، مثل معدلات استهلاك الطاقة، والإنترنت، وانتشار البطالة، وبالطبع الآن مدى تأثيرات الأوبئة، ومنها جائحة «كورونا»، على مسائل كبرى كمفهوم الدولة وحدودها وسلطتها وقدرتها على إدارة الأزمات وأولوية المؤسسات التنظيمية المتصلة بشكل مباشر، على مصالح المواطنين، كالصحة والتعليم والاقتصاد، إضافة إلى أولويات واتجاهات السوق ما بعد «كورونا»، وصولاً إلى برامج مجتمعية متخصصة، سواء على مستوى التطوّع الإنساني في الكوارث أو ما يتم الحديث عنه الآن «التجنيد الصحي» أو التدريب على الإسعافات الأولية والتمريض وأساسيات الإنقاذ، في مقابل التجنيد العسكري الذي تفرضه بعض الدول كإجراء استباقي.
من المهم جداً في قراءة المستقبل بناء على معطيات معينة تجنب أي انحياز آيديولوجي، والانطلاق من المسلّمات والافتراضات المتفق عليها من مختلف اتجاهات البحث العلمي والفكري والعقائدي والتكنولوجي. على مستوى وباء «كورونا»، فالتحديات ليس كما يتم الحديث عنها بشكل مباشر هي تحديات الأزمة الصحية والمؤسسات التي تكشفت عنها دول كانت ذات تصنيف عالٍ من حيث التصور السائد، لكنها أبانت عن ارتباكات حادة وعميقة ساهمت في تعطيلها أيضاً مفاهيم شديدة الالتصاق بمفهوم وحدود الدولة والسلطة والحريّات العامة، لذا من الطبيعي أن تكون تحديات ما بعد «كورونا» تطال تلك المفاهيم خارج الخدمات الصحية، وأبرزها التحديات السياسية الكبرى وأزمات التكلس الاجتماعي وحالة الانحسار والتراجع الاقتصادي وصعود مستويات حالة البطالة والفقر وتحولات السوق ونقصان الفرص، إضافة إلى أزمات الهوية والبطالة وتحديات الأمن؛ خصوصاً مع وجود أزمة حقيقية فيما يمكن تصنيفه تحت معضلة عصر «فوضى المحتوى» بما تقذفه أقانيم ومنصات الإنترنت والوسائط الجديدة من أسئلة عادة لا تفيد الإجراءات الاحترازية أو الأمنية من علاجها على المدى الطويل، في ظل غياب محتوى بديل، بل تطرح مزيداً من التحديات مع نظريات المؤامرة وصعود وسائل الإعلام المغرضة التي تمارس أعمالاً حربية في زمن التضليل الإعلامي المجاني سريع الانتشار، وبغضّ النظر عن موجات الإعجاب والانبهار التي نشهدها اليوم، حتى في صفوف مفكرين غربيين كبار، بالتجربة الصينية في إدارة أزمة «كورونا»، إلا أن كثيراً من تلك القراءات كان سطحياً ومبتسراً، فما حدث كان تفعيلاً لمفهوم السلطة في أقصى وأقسى حدودها الممكنة للسيطرة على الوباء، في ظل ارتباك وتردد، بلغ حد الفوضى في عدد من الدول الغربية، حتى تلك التي تتمتع ببنية صحية مؤسساتية مزدهرة. ما حدث في الصين من تفعيل دور السلطة لم يكن بالقوة المسلحة، كما يظن البعض، بل باستخدام أهم سلاح مستقبلي تملكه الدول، وهو «المعلومات»، أو بحسب تعبير يوفال هراري، نجم القراءات المستقبلية الشاب في عبارته الأثيرة التي أطلقها في مؤتمر بـ«السيليكون فالي» قلب التقنيات العالمية، وضمنها كتابه الأخير: «من يملك قواعد البيانات سوف يملك العالم». ما فعلته الصين كمثال صغير، وقراءة تجربتها في إدارة الأزمة، بحاجة إلى مقالات ودراسات كثيرة، أنها فعّلت تطبيقات الدفع مثل Alipay وWeChat لتتبع تحركات المستخدمين، وأعادت فرز هواتف مستخدمي الاتصالات وفقاً لترميز خاص بأزمة «كورونا» بحيث تحمل ألواناً كالأحمر والأخضر والأصفر، وكل لون يشير إلى مستوى وخطر الإصابة المحتملة، التي تم التحقق منها بعد ذلك من قبل الحراس في محطات القطار.
وبفضل تلك التطبيقات التي تسيطر عليها الدولة، وتمنع استخدام تطبيقات غربية مماثلة شهيرة، يتم الإبلاغ عن كل من قاموا بكسر الحجر الصحي بشكل تقني ومباشر للسلطات، في مقابل ذلك تقوم منصات التواصل الاجتماعي المشابهة لـ«تويتر» و«فيسبوك»، وهي صينية محضة بالمناسبة، مثل Weibo وWeChat بأدوار رقابية شديدة لمواجهة نظريات المؤامرة والشائعات والترهيب المجتمعي للصينيين، وبغض النظر عن تعارض تلك الإجراءات أو الحكم عليها وفق منظومة قيمية سائدة غربية بشكل أساسي، إلا أنها كانت إحدى الوسائل الأكثر نجاعة في إعادة الاعتبار لمفهوم ودور السلطة والدولة حتى في نظر الخبراء الغربيين في قراءتهم لتداعيات «كورونا» على المفاهيم الإنسانية الكبرى.
والحال أن الأزمات الاقتصادية ستضيف عمقاً جديداً لمشكلات المنطقة طبعاً بغض النظر عن ظلال انهيار أسعار النفط، الذي يخضع لمقاربات متباينة جداً، سواء في الدوافع وعلاقتها بالأوضاع السياسية، حتى في حرص السعودية على إيصال رسالتها النفطية للعالم بصيغة جديدة تعيد تعريف واعتبار ومكانة النفط التقليدي، في ظل موجات وصَرعات التخلي عن النفط، التي ستذوب في ظل إخفاق الشركات الكبرى الباحثة عن نفط بديل عن الوصول لبدائل مقنعة سعراً وكماً وجودة وربما خسارة كثير منها وإغلاقها.
أزمة تعاظم وصعود طبقة الشباب وتحولهم إلى قوة ضاغطة وكتلة اجتماعية هائلة بلا محطات استيعاب، ما يجعلهم في ظل «فوضى المحتوى» فرائس سهلة لتنظيمات متطرفة سياسية حتى على مستوى العمل المسلح، وهو ما يشكل كابوساً للمراقبين في ظل غياب استراتيجية شاملة لمعالجة ملف التحديات الأمنية ذات البعد الثقافي والفكري والسياسي، التي تحتاج إلى آليات عمل وأدوات وخطاب ومنتجات تختلف عن المواجهات الأمنية التي استطاعت الجهات الأمنية في الخليج والسعودية تحديداً تحقيق إنجازات كبيرة وحاسمة فيه، ولا يفترض أن تنوء وحدها بحمل الشق الثقافي والفكري.
لا شيء يدعو للضحك أو البكاء، بل كل ما يمسّ البشر يستلزم الفهم، كما يقول سبينوزا، أحد أهم فلاسفة عصر الأنوار، لأنه يبقى للبشرية كثير من التفاؤل والأمل لدى الإنسان رغم الفقد والألم الكثير لمنسوب الحب الغريزي للحياة، والرغبة في العيش بشكل أفضل، والذي سيبقى - مهما تصاعدت الانقسامات والأزمات الكبرى - الدافع للخروج من حالة الدوران حول الذات المرتبكة بين تحديات ومخاطر أمنية وبين تطلعات لعيش الرفاه وتقدم اقتصادي يقود إلى مستقبل مختلف وطموح في تجاوز أي سنوات عجاف عابرة.