بقلم : يوسف الديني
مدفوعاً بجنون العظمة والزهو بالتفوق العسكري وإضعاف «حماس» و«حزب الله» دون تحقيق القضاء عليهما، يؤسس رئيس الوزراء الإسرائيلي لـ«النتنياهوية» الجديدة، وهي مزيج من الخطاب اليميني الديني التلمودي، وكثير من الأوهام حول إعادة تشكيل الشرق الأوسط، في حين أن نتائج الانتقام من «حماس» و«حزب الله» بسبب السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، أنتج واقعاً جديداً على مستوى الأرقام، وأيضاً على مستوى المؤشرات تجاه مستقبل المنطقة فيما بعد الحرب.
سؤال «المابعد» هذا لا علاقة له بوضعية الميليشيات أو الفصائل المسلحة ومآلات قادتها ورموزها وبناها التحتية، وإنما بأرقام الضحايا والمدنيين والتدمير الممنهج للقابلية للعيش في مدن لا يمكن تهجير أهلها أو محو ذاكرتها مهما طال أمد الحرب، أو تعددت مستويات المواجهة. ومن هنا فإن ما يعد به المشروع «النتنياهوي» لا يتجاهل -فقط- مرتكزات السيادة والتاريخ والعدالة والقانون الدولي، ولكنَّه يخلق حالة جديدة من طبيعة الصراع، لا يمكن التنبؤ بها، حتى بعد إيقاف الحرب، حين تبدأ الذاكرة الاستعادية للفلسطينيين بالدرجة الأولى وشعوب المنطقة أيضاً، بمستويات قد تكون متفاوتة ومتصارعة، وأيضاً متضادة، في مقاربة المسألة الفلسطينية من زوايا طائفية وسياسية وجهوية؛ لكنها رغم كل هذا الصراع تخفي وراءها إجماعاً وتكتلاً هائلاً على أن الأبرياء وسكان غزة وأهل لبنان لا يستحقون هذه الوحشية الممنهجة، فضلاً عن تدمير المدن وتجريف ملامحها وهويتها، وتهجير سكانها، وتجويع أهلها، وهو أيضاً ما يجمع العقلاء في الغرب في المجتمعات المؤثرة على المستوى العلمي والأكاديمي، بحيث تتكون معادلة لا يمكن أن تخطئها عين المراقب: كلما زاد حصار المدنيين زاد الحصار عليها فكرياً وأخلاقياً؛ حتى في أوساط مؤيديها.
في المقابل، لا يمكن أن يمنع عقلاء المنطقة ودول الاعتدال ما يحدث عن التوقف عن ضرورة إنهاء الحرب والتصعيد، رغم كل دعاوى المشاريع المؤدلجة في المنطقة، والتي تعمل بالآليات والتقنيات نفسيهما، ولكن في اتجاهين متضادين: المشروع الميليشيوي الذي يختزل تاريخ المنطقة وشعبها في الميليشيا والأذرع التابعة لها، والمشروع الوحشي الاستيطاني الذي يختزل الأوطان في الفصائل المسلحة التي -وإن لم تستطع التغلب عليها عسكرياً بحكم فارق القوة- تحاول جرَّها للخروج من التلبس بشكلانية الدولة الديمقراطية، ونزع قناع الدولة النموذج، والتصرف بهذه القدرة على الانتقام الذي لا يستثني أحداً.
في قطعة استثنائية من التحليل والقراءة المعمقة للتاريخ، كتب غسَّان سلامة، المفكر والدبلوماسي العريق، في «الفايننشيال تايمز» عن معضلة الشرق الأوسط وجنون نتنياهو الذي حاول الاستثمار في تراجع مفهوم الدولة في عدد من الدول العربية، وهشاشة الأوضاع، كما هي الحال مع المشروع الإيراني؛ لكنها وإن استطاعت تقليم أظافر أذرع طهران أو بترها فلا يمكن مع استمرار حالة التجريف للأوطان «منع عودة ظهور الجماعات ذات الجذور الثقافية العميقة والتي تعتبرها قضية مشروعة. ويبدو من المرجح أن تستمر القضية الفلسطينية في لعب دور شجيرة الكتاب المقدس المشتعلة التي تنطفئ لتشتعل من جديد بعد ذلك مباشرة».
استعار سلامة مفهوم غرامشي، وابن خلدون قبله، حول مسائل التبعية والهيمنة؛ مشيراً إلى التقاطة مهمة، وهي أن ما تفعله إسرائيل اليوم لا علاقة له بمحاولات الهيمنة أو فرض الأمر الواقع، وإنما هو مشروع إقصاء واستبعاد، وحسب عبارته فإن نزعة إسرائيل «التوسعية غير مستساغة، حتى بالنسبة لأقل سكان المنطقة ميلاً إلى الحرب، لمجرد أنهم لا يستطيعون أن يشاركوا في ذلك. فهم يعتبرون أنفسهم بعيدين تماماً عن المحرقة التي فرضها الأوروبيون على اليهود، وبالتالي فهم غير راغبين في دفع ثمن أفعال أوروبا السيئة مرة أخرى. إن دمج الضعفاء في مجال الأقوياء -كما حلل أنطونيو غرامشي، أو قبله بفترة طويلة ابن خلدون العظيم الذي كتب عن عملية يتقبل بموجبها الضعفاء مكانة أدنى ما داموا جزءاً من شبكة الحاكم، وهو ربما شرط مسبق للهيمنة المستدامة- أمر مستحيل في ظل هذه الظروف».
الأكيد أننا لسنا أمام استراتيجية إسرائيلية، وإنما موجة انتقامية لـ«النتنياهوية» الجديدة بشعبويتها وشعاراتها ومكابرتها، حتى في الرضوخ للقوانين والأعراف الدولية، ودون اكتراث حتى من الصوت النقدي داخل إسرائيل الذي يحاول التترس بملف الأسرى دون جدوى، تجاوز نتنياهو كل الحدود الإنسانية والسياسية والعسكرية.
ولا يبدو أن لديه أي استراتيجية واضحة المعالم لليوم التالي أو الحالي غير البقاء في السلطة لأطول وقت ممكن، والتلويح بأوهام عريضة، كإعادة تشكيل الشرق الأوسط الذي يخبرنا التاريخ أنه غير قابل للاستنبات القسري.