بقلم: يوسف الديني
«مرتكب هذه الجريمة الشنعاء لا يمثل الشعب السعودي الذي يكن للشعب الأميركي الاحترام والتقدير، والمملكة تقف إلى جانب الولايات المتحدة وتتعاون مع الأجهزة الأمنية المعنية للوصول إلى كل المعلومات التي تساعد في كشف ملابسات هذا الحادث المؤسف»... هذه الكلمات الصارمة من قبل خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز تجاه حادثة فلوريدا تمثل حصيلة للعقلانية السياسية التي تدشنها السعودية الجديدة في شفافيتها مع ملفات شائكة في السياسة الخارجية سواء تلك المتصلة بملف الإرهاب والتعامل المسؤول والجاد معه، أو فيما يخص المواقف من القضايا الدولية ونقد المشاريع المؤدلجة التي ترفع شعارات عدائية تجاه القوى الغربية ومنها الولايات المتحدة، أو تحاول دعم الميليشيات المسلحة والحركات المقاتلة لأغراض الهيمنة والتدخل في سيادة دول المنطقة.
من أعلى الهرم في البيت السعودي وصولاً إلى شرائح كبيرة من المجتمع، خصوصاً من فئة الشباب.. كل هؤلاء عبروا عبر شبكات التواصل الاجتماعي عن موقفهم تجاه الحادثة بشكل غير مسبوق، مما يؤكد أن هناك تحولاً كبيراً في مزاج ومناخ سعودي تجاه الممارسات الفوضوية التي كانت ربما قبل عقود تعيش في فوضى التبرير أو التأييد المموه، والفتاوى المضللة من مجموعات خارج المؤسسات الدينية الرسمية، ومنها هيئة كبار العلماء التي أصدرت بياناً يدين الحادث أيضاً، كما عبر عن ذلك قيادات سياسية في مواقع مختلفة من ولي العهد ومشروعه الطموح الذي لا يقف عند الجانب الاقتصادي بل يتعداه إلى ترسيخ «التسامح» والانفتاح على العالم كقيمة مضافة عنوانها الاستثمار في الإنسان السعودي.
هذه العقلانية المسؤولة في التعامل مع الحادث البشع والجريمة التي لا تزال حتى الآن قيد التحقيق والتحليل، ساهمت في عقلنة المواقف الأميركية الرسمية، وبالطبع ثمة استثناءات تتصل بطبيعة قوة السعودية ونفوذها واستثمار ذلك لأغراض انتخابية وحزبية ضيقة والكثير من الفوضى الإعلامية التي تبحث عن الإثارة والسبق الذي عادة ما يتصل بكل ما يمسّ السعودية ومكانتها. من ثمرات تلك العقلانية نجد اختلافاً في تصريحات المؤسسات الأمنية الأميركية، حيث أعلن فريق المحققين في «حادثة فلوريدا» شكره للمسؤولين السعوديين والطلبة الذين تعاونوا مع التحقيقات المرتبطة بحادثة إطلاق النار، وبحسب راتشيل روخاس، وهي رئيسة فريق المحققين الفيدراليين، أن مكتب التحقيقات الفيدرالي تعامل مع هذه الحالة «كأنها عمل متطرف، بيد أنه من الصعب الوصول إلى هذه النتيجة الآن إلا بعد اكتمال التحقيقات»، مضيفة: «نعمل مع شركائنا الدوليين، بمن فيهم السعوديون، فيما يخص هذه الحالة. والسعوديون زودونا بكثير من المعلومات عن مطلق النار، وغيرها من أوجه التعاون المطلق في هذه القضية».
استهداف السعودية بات صوتاً نشازاً لأصحاب مشاريع سياسية متطرفة تعبر عنها دول رعاية الإرهاب والميليشيات والإعلام المؤيد لتلك المشاريع. هذه الأصوات النشاز ترفع عقيرتها عقب كل جريمة إرهابية أو حتى حادثة لا تزال غامضة قيد التحقيق في محاولة لتجنيس «الإرهاب» أو تأطيره بجغرافيا محددة، في حين أن مسؤولية هذه الأصوات المتشنجة تجاه قضايا التمويل والتساهل مع عناصر وخطاب التطرف الذي ينطلق من دولها وللأسف أيضاً من بعض الدول الأوروبية بدعوى الحرية بل وتدافع عنه بعض المؤسسات الحقوقية التي لم تملك سوى انتقاد السعودية تجاه حملتها الصارمة إزاء منظري التطرف ودعاة الفتنة بدعوى أن ثمة إجراءات تعسفية ضدهم باعتبارهم معارضين سياسيين، وهذه مفارقة أخرى.
سجل السعودية في مكافحة الإرهاب غير مسبوق، فقد كان قدرها أن تعرف التنظيمات الراديكالية المتطرفة قبل أي دولة أخرى في الشرق الأوسط، كما أنها تعرضت لهجمات الإرهابيين في الداخل أكثر من أي دولة أخرى، لكنها في النهاية تمثل قلب العالم الإسلامي، بما يحمل ذلك من ثقل ديني وسياسي يحولها إلى مرمى نيران الإرهابيين من كل مكان.
الحرب على التطرف في السعودية هي حرب وجود وعدم لا يمكن تأطيرها بإطار زمني، وكلما تمضي السنوات يتأكد أننا بحاجة إلى بذل المزيد في التعامل مع ظاهرة يتم الاستثمار فيها دائماً عبر مشاريع ومنابر إعلامية وتنظيمات إرهابية متطرفة تجد طريقها إلى شبكات الإنترنت بسبب عدم المسؤولية من قبل تلك المنصات لأسباب تسويقية وربحية تعتمد على الكم والانتشار مدفوعة بمأزق «اللوغاريتمات» التي تعيد تدوير المحتوى المثير ولو كان عنيفاً أو ما يعرف في علم نفس التسويق بـ«الفاكهة المحرمة».
الخطابات المتطرفة المتعاطفة باتت فكراً معولماً يجد محاضنه في أزقة وشوارع الغرب وضواحيه كما هو الحال في البلدان الإسلامية، ولكنه ينتعش اليوم بشكل محموم في العالم الموازي؛ العالم الافتراضي الرقمي. ومع سهولة الحصول على السلاح في بعض البلدان بسبب تشريعات وسياق تاريخي خاص وضعف الرقابة الأمنية الرقمية، لا شك أن فوضى الجريمة الفردية بدوافع انتقامية أو نفسية أو إرهابية من أكبر التحديات التي سيواجهها عالمنا.
اليوم يمكننا الحديث عن مئات الأشكال المختلفة للعنف المسلح، ومئات التنظيمات التي تحتاج إلى قراءة مختلفة بسبب الاختلاف في السياق والأهداف، لا سيما بعد «تغول» الجانب السياسي في دوافع الجريمة، لكن كل هذه الاختلافات والتنوعات تلقي بعبئها الأمني والاستراتيجي على المناطق التي تستهدفها، وعلى حالة الاستقرار في العالم، لا سيما مع تصاعد موجة التجنيد والاستقطاب للكوادر الجديدة التي يفرزها الواقع المحبط بكميات غير مسبوقة.
وإذا كنا قد عانينا طويلاً من تنميط الخطاب الغربي للإرهاب، فإن مما يزيد مسألة الإرهاب تعقيداً هو انتقال عدوى «التنميط» إلى واقعنا المحلي في ظل التركيز على الجوانب الأمنية دون النظر إلى الصورة المكبرة، الخطاب القابع وراء مفهوم التطرف بأشكاله.
وإذا كنا نتحدث عن الإسلاموفوبيا في سياق كل حادثة عنيفة أو جريمة إرهابية تحدث في الغرب، فإن اليوم يجب أن نناقش محاولة «سعودة» الإرهاب باعتباره حالة انتهازية وتسييساً صارخاً مرده إلى مكانة السعودية وحجمها وتأثيرها وليس إلى قراءة موضوعية وعقلانية مسؤولة كالتي شهدنا بوادر إيجابية بحاجة إلى تعاون أكبر لتحويلها إلى نموذج في التعاون المشترك.