بقلم: يوسف الديني
صدرت عن الأمم المتحدة تقارير عدة عن وضعية الإرهاب والتطرف والراديكالية المسلّحة، من خلال التهديدات التي يتعرَّض إليها الجانب المهمل من كوكب الأرض، القارة السمراء التي تعيش حالة من إعادة التجنيد وانتشار الحركات الإرهابية والتنظيمات المسلحة بأساليب تمويل جديدة، وأسلحة متقدمة وتهديدات للسكان المحليين، وتجنيد للأجيال الشابّة، إضافة إلى خلق مناخات لاقتصادات موازية تنافس الدولة المهشمة.
التقرير صدر قبل أسابيع عن المديرية التنفيذية للجنة مكافحة الإرهاب ومكتب مكافحة الإرهاب وفريق الدعم التحليلي ورصد الجزاءات، وجاء في محتواه ما يستدعي التوقف طويلاً للباحثين والخبراء في مسألة حالة التطرف حول العالم، ومن ذلك الاعتراف بأن الهزيمة على الأرض أو فقدان مناطق السيطرة والنفوذ، أو ما يتم التعبير عنه بـ«سقوط معاقل»، لا يعني نهاية التهديد الذي تشكّله هذه الجماعات المتطرفة.
من المسائل العالقة التي تناولها التقرير مسألة بقاء تدفق الموارد المالية والتجنيد، وهناك أيضاً ما يمسّ الجانب الإنساني. وقد تجلى مؤخراً في معضلة التعامل مع الزلازل التي ضربت تركيا وسوريا، خصوصاً في المناطق المعارضة للنظام، التي تعيش أوضاعاً مأساوية قاسية جداً، ولديها ما قبل الزلزال ملف عالق، وهو إعادة عائلات المقاتلين الأجانب وأطفالهم (بحدود 70 ألفاً فقط في الشمال السوري، وعشرات الآلاف من المقاتلين في السجون) إلى بلدانهم الأصلية، في ظل تردد وصلف بعض الدول الأوروبية في الاعتراف بالمشكلة، أو تحمّل مسؤولية الأفراد الذين ينتمون لها.
الإشكالية في مسألة مقاربة ملف عودة الإرهاب المسلح والتنظيمات المتطرفة، أن الأسئلة فيها تتجاهل مسألة أساسية جوهرية، وهي هل واقع هذه التنظيمات وقدرتها على اختراق البلدان سبب أم نتيجة؟! وفي هذه الحالة يمكن فهم المتغيرات حول ما يشبه «العود الأبدي» في تعبيرات الفيلسوف الألماني نيتشه، لكن من خلال انبعاث النشاط الإرهابي والعمل المسلح في كل مرة يتم إعلان نهايته، بسبب تجاهل كونه نتيجة لأسباب جوهرية على رأسها تراجع منطق الدولة، ومنسوب الاستقرار السياسي، والحد الأدنى من الاقتصاد الكفؤ القادر على تسيير حياة الناس ومعيشتهم، وقد لاحظنا تجول قادة الجماعات المسلحة في المناطق المنكوبة في سوريا، واستغلال حدث الزلزال في محاولة للعب دور السلطة، في حين أن الانتقادات للنظام ما زالت كبيرة على طريقة تعامله مع الأزمة، خصوصاً في مسألة مرور المساعدات الدولية وفتح المعابر.
التنظيمات تغير جلدها سريعاً بدءاً بملفات إعلان القياديين الجدد، «داعش» على سبيل المثال، من الهاشمي إلى القرشي، إضافة إلى البقاء على ملاءة مالية، رغم كل القيود الدولية على غسل الأموال والتحويلات، لا تزال كبيرة بسبب تقنيات الإتاوات، والاعتماد على الاقتصاد الموازي المحلي، إذ يقدر في «تنظيم داعش» للعام الحالي بنحو 60 مليون دولار، وهو الرقم الذي لا يشمل الحضور الكبير في العملات الرقمية المشفرة، الذي هرعت له أغلب التنظيمات الإرهابية، وتتعامل معه بشكل أساسي بسبب مرونته المصرفية العالية.
على مستوى السلاح، تحاول التنظيمات المسلحة والجماعات الإرهابية التي تتخذ من القارة الأفريقية مصدر إعادة انبعاث لها فهم التحولات الكبرى في توازنات الحروب، ومن يتابع اليوم المحتوى المنشور على منصات ومنتديات ومدونات «المتن المتطرف»، وهي أيضاً كثيرة ومنتشرة، وتتخذ مواقع بديلة وأخرى مشفرة، يدرك حجم حضور مسألة الدرونز والنقاش حول التسليح الجديد، والنقاشات حول هذا الموضوع.
المسائل الإنسانية أيضاً غائبة عن هذه التقارير الوظيفية إلى حد كبير، لكن الأزمات الكبرى التي يعيشها العالم، ومن بينها الكوارث الطبيعية تطرح أسئلة أخلاقية وإنسانية جادة حول المناطق المنكوبة، بسبب التحديات الطبيعية والمنكوبة، مرات بسبب سيطرة التنظيمات الإرهابية وهشاشة النظام، وغياب الاستقرار وانهيار الاقتصاد، حيث لا توجد رؤية واضحة أممية أو دولية لبرامج دعم ضحايا هذا الوضع من الأهالي والأبرياء من سكان تلك المناطق، الذين غالباً ما يكونون عُرضة للتجنيد القسري أو الطوعي، بسبب استمالتهم فكرياً أو مالياً، ومثل هذه الخطوة لا يمكن أن تتم من دون إعادة تفعيل رؤية دولية وإقليمية مبنية على التعاون والتكافل الذي رأينا بعضه في مسألة الزلزال، إلا أن عدم معالجة أوضاع تلك البيئات المهددة بالإرهاب في الظروف العادية، ينتج واقعاً مأساوياً وعبئاً إضافياً في أوقات الأزمات والكوارث، رأينا بعضه في إحجام كثير من المنظمات الإنسانية، وترددها في دخول مناطق التوتر؛ خوفاً على سلامة الأفراد من طواقمها الإغاثية، إضافة إلى انتشار الفوضى وسرقة المساعدات، والهروب من السجون الجماعية في أوقات الكوارث، وإعادة العجلة من جديد بسبب حالة الإهمال والتغاضي والسكوت الذي مع الوقت يحول مناطق كثيرة من العالم إلى بؤر انفجار وتصدير للأزمات متكرر، أشبه بذلك «العودة الأبدية» لنيتشه!