بقلم: يوسف الديني
الولايات المتحدة على صفيح ساخن وحرائق العالم الموازي التي لا يمكن أن يطفئها رحيل ترمب أو حتى الضغوطات الهائلة لإجباره على العزل أو التلويح بمحاكمته وإغلاق حسابه على كل منصّات التواصل الاجتماعي وشركات التقنية المستضيفة (مملكة وادي السيليكون) ومنها منصّة «تويتر» التي قامت بحظر حسابه رغم وجود مئات الحسابات النشطة من كل التنظيمات والتيارات المتطرفة والإرهابية والمسلحة والانفصالية والعنصرية والمحرضة على العنف ضمن حجتها القديمة «حرية التعبير» التي لم تتسع لتغريدات ترمب التي تتجاوز شخصه أو رحيله إلى محاولة البقاء على جذوة انبعاث «الشعبوية» في الولايات المتحدة ونسخها الصاعدة في العالم، وهو ما تسعى القوى المضادة لها إلى حصارها وخنق تمددها في العالم الافتراضي بعد أن تضخم وجودها في الشارع حتى بلغت الكونغرس.
التيارات المناوئة للشعبوية أو الترمبية التي تتجاوز شخصه هي أيضاً أكبر وأكثر تعقيداً من كل الأقواس واللافتات السياسية تتجاوز الحزب الديمقراطي إلى قوى فاعلة في قلب صناعة المحتوى والإعلام الذي استفزّه ترمب في مملكته منصات التواصل الاجتماعي، حيث بات الفئة الأكثر تأثيراً في عالمنا اليوم، وامتلاكاً لأكثر الأسلحة قوة وصلابة «البيانات الرقمية» التي تنبأ من يوصف بـ«نبي وادي السيليكون» يوفال هراري الفيلسوف الشاب ذو النجومية التي توازي مشاهير السينما، بأن حروب العالم وأسلحته القادمة هي «البيانات»، حيث من يملكها يملك التأثير على العالم.
وغني عن القول إنه منذ صعود منصات التواصل الاجتماعي، وهي تقود زمام التأثير على مستوى المحتوى والتسويق السياسي والانتخابات، وصولاً إلى الثورات والاحتجاجات والرضّات الاجتماعية وكان منها ما سمي الربيع العربي، وتداعيات ذلك من صعود معسكرات الإرهاب الرقمي والتجنيد عبر الإنترنت لـ«داعش» كجزء من ضريبة إشكالية عميقة الجذور بين «حرية التعبير» كشعار ترويجي، وبين «إدارة المحتوى» كمسؤولية أخلاقية.
عوداً إلى أزمة ترمب الكاشفة لصراعات القوى المسيطرة على «البيانات» والتي عادة لها منظوماتها الفكرية والأخلاقية الخاصة مما بات يعرف الآن في المجتمعات الثقافية التي تقرأ الظاهرة بالمتيقظين Woke culture الذين استفزهم ترمب منذ بداية توليه بحروبه الكبرى على الإمساك بسلطة التأثير والتي بدأها بالهجوم على الإعلام والناشرين التقليديين، ثم بحضوره القوي والمؤثر على منصات التواصل الاجتماعي وصولاً إلى الحرب عليها من داخلها، مطالباً بإعادة تقليم أظافرها وسلطتها على المحتوى من خلال إجراءات قانونية من شأنها التأثير على أهدافها الربحية والتسويقية والترويجية، فضلاً عن امتلاكها لبيانات المستخدمين.
الجانب المثير في موضوعات منصات التواصل الاجتماعي هو حالة الانكشاف الذي تعرضت له خلال السنوات الأربع من حكم ترمب الذي لم يكن اللاعب الوحيد في إعادة النظر إلى شركات التقنية ووادي السيليكون خارج أقواس الانبهار بالتطور التقني إلى تأثيرها في العالم الواقعي الذي نعيشه... على سبيل المثال أطلقت حملات عديدة في كل مناطق العالم ضد شركات التقنية، خصوصاً الأربع منصات الكبار من «تويتر» إلى «فيسبوك» و«يوتيوب» و«إنستغرام» تجاه إدارتها للمحتوى المحرّض وقدرتها على التأثير السلبي مع امتلاك قدرة تأثير مطلقة؛ على سبيل المثال يملك «فيسبوك» أكثر من ملياري مستخدم يفوق معتنقي كل الديانات، ولعب المحتوى المعروض فيه دوراً سياسياً بارزاً في كل التحولات الكبرى من التسعينات.
الثنائية التي لا تزال ثغرة وستظل لدى آليات عمل هذه المنصات هي اللعب على مفهومين أحدهما قيمي والآخر إجرائي، حيث حرية التعبير free speech تتقاطع مع إدارة المحتوىcontent moderation، واللعبة الأثيرة لهذه المنصات تكمن في الاحتجاج بحرية التعبير كشعار قيمي حقوقي وتمرير السياسيات عبر إدارة المحتوى المتحيّزة التي أدت منذ بداياتها التي ترافقت مع الانبهار وحبس الأنفاس، إلى حوادث كارثية لا تزال حاضرة في كل مدونات تأريخ التأثير لهذه المنصات من العنف العرقي في سريلانكا والهند إلى استخدام الميليشيات في ميانمار كأداة تطهير عرقي بحسب تقرير للأمم المتحدة.
جذر المشكلة هو قانوني ملتبس وعالق، لأنه ظل على حاله منذ أن أصدر في التسعينات مع صعود نجاحات شركات التقنية كعابرة للقارات ودول ذات حدود مسيّجة ضد أي تدخل حكومي أو مؤسساتي، إلا من قانون فيه ثغرات كبيرة وهو قانون آداب الاتصالات CDA الذي أقره الكونغرس عام 1996 في مواجهة المحتوى الإباحي في ذلك الوقت، من دون أن ينجح في السيطرة عليه، لكن أهم ما في القانون مما يتصل بالسياسة والمحتوى التحريضي هو ما يعرف بقسم Section 230) 230) الذي يوصف بدستور وادي السيليكون، والذي تقوم بنيته القانونية والتشريعية على أن المواقع التي تعتمد على محتوى من ابتكار المستخدمين لا يتم التعامل معها في إطار مسؤولية الناشر، وإنما باعتبارها منصات تنسيق للمحتوى، وهذا ما يعني أن كل تغريدة أو مقطع أو تعليق أو صورة على كل شبكات التواصل الاجتماعي لا تتعلق مسؤوليتها المباشرة بالشركات، وإن كانت الشركات لاحقاً ألزمت نفسها مع الضغوطات الهائلة القيام بعمليات تدقيق انتقائية وبلا معايير واضحة وبطواقم تدقيق محدودة لا تفي بالغرض، حتى جاءت موجات الأعمال العنفية والإرهابية والعنصرية الكبرى، فحاولت زيادة الجهود لكن من دون أي سيطرة، لأنها تفتقد إلى الموارد والدافع التي تتجه بشكل أساسي على المزيد من المحتوى ما يعني المزيد من الربحية والإعلانات.
لنا أن نتخيل أن «يوتيوب» على سبيل المثال يستقبل ما يزيد على ستمائة ساعة في كل دقيقة على منصّته، وهو ما يعادل قرناً من الزمن المرئي! لكن هذا المحتوى الهائل هو كنز لا يقدر بثمن للشركات التقنية، بسبب اعتمادها على البيانات التي خلفها وتحليلها بما يتم تقديره بأثمان مضاعفة من قبل المعلنين. ماذا عن حرية التعبير؟ أكتفي بنقل عبارة المدير العام التنفيذي لمنصة تويتر جاكي دي قبل سنوات حين علّق على مسألة الحريّات بقوله: «حرية التعبير لم تكن يوماً في حسبان منصات التواصل الاجتماعي... الأمر كان أشبه بمزحة! كانت مجرد دعابة».
التحدي الأكبر هو مستقبل هذه الحرب الكبرى بين العالم الموازي وتأثيره على عالمنا في السنوات والأيام المقبلة، بعيداً عن تجليّاته الصغيرة المؤقتة ومنها ملف الشعبوية وترمب، وكيف يمكن للحكومات الحريصة على الاستقرار وضمانة عدم تأثير فوضى المحتوى على أمنها، في ظل أنه لا توجد حدود رقمية منيعة، أو محتوى مضاد يمكن أن يضاهي سطوة أبناء الخوارزميات وعالمهم اليوم، وهو ما سأتحدث عنه لاحقاً.