بقلم - يوسف الديني
الفصل بين الأرض والإنسان، القضية والمصالح الجيوسياسية في سوريا اليوم قد تكون سابقة في التاريخ الحديث ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تعاد كتابة التاريخ السوري بعيداً عن السوريين وبنظرة كرمونولوجية لا تفكر في عواقب ما يحدث على السوريين؛ الأمة والهويّة، بقدر النظر إلى موضعة سوريا كأرض نزال للمصالح الدولية المعقدة بعد الانفراد الروسي والتدخل التركي واستباحة السيادة بمباركة النظام طمعاً في التدويل والبقاء بأثمان باهظة يدفعها الشعب السوري الذي كان في وقت مضى مستهدفاً بالجملة من النظام، والآن بات مستهدفاً من أنظمة ودول، بحسب انتمائه الجغرافي أو الطائفي أو الإثني.
جزء من أزمة سوريا التي تحولت إلى مسرح لجرائم أنظمة تتدخل على أراضيها بدوافع سياسية ذاتية تحت شعار الدفاع عن السيادة والأمن القومي هو حالة الإهمال من قبل المجتمع الدولي والولايات المتحدة تحديداً التي لا تزال تتحدث كثيراً عن التصدي للتوسع الإيراني، لكنها في الوقت ذاته لا تلقي أي بال للانتهاكات الروسية، ومن هنا يمكن قراءة التحرّك المنفرد لإسرائيل للدخول في هذا السباق نحو تحويل سوريا إلى ساحة تصفية لمعاركها.
التحركات أحادية الجانب من كل الأطراف من قبل تركيا وإسرائيل هي محاولة لاستباق أوضاع متغيرة في الداخل السوري وتحديداً ما يخص تحويل الأراضي السورية التي تسيطر عليها ميليشيات ملالي طهران وذراعها العسكرية حزب الله إلى مناطق تصنيع وتجنيد جديدة لحروب الوكالة في المنطقة، حيث تشير التقارير إلى أن إيران قامت ببناء مصانع لإنتاج مزيد من أنظمة التوجيه الأكثر دقة لآلاف الصواريخ على مرأى ومسمع من الروس الذين يحاولون بيع الأثمان السياسية لكل الأطراف، تهدئة إسرائيل وطمأنتها من جهة ومن جهة أخرى غض الطرف عن إيران وسلوكها التصاعدي في الأراضي السورية والضغط على الولايات المتحدة للحوار معها وتحويل ملف سوريا إلى كارت سياسي لإعادة رسم موازين القوى في المنطقة، وفي الوقت ذاته خلق ذرائع للتدخل التركي عبر قمع الأكراد داخل الأراضي السورية، وفي المحصلة تؤدي كل هذه النزاعات إلى تقوية وضعية نظام الأسد بسبب تفتيت جبهات المعارضة وتحويلها إلى كمائن سهلة أمام التدخلات الخارجية بما تمثله من مصالح سياسية متعارضة مع سياسات تلك الدول.
وإذا كانت حالة التدخل التركي والإسرائيلي تبدو مرحلية لأسباب سياسية تراها تلك الدول ظرفية، فإن التغلغل الإيراني في الداخل السوري هو استثمار لمستقبل إيران في المنطقة وتقوية وضعية حزب الله ومحاولة الإبقاء على نظام الأسد للانتصار في المعركة ضد الفصائل المعارضة التي سهل التفوق الشيعي الميليشيوي في كسب الرهان على الرهاب الغربي من إرهاب الميليشيات السنية وعدم الضيق كثيراً من إرهاب الميليشيات الشيعية المسنود بمنطق دولة الملالي، والذي ترى جهات سياسية غربية أنه يمكن السيطرة عليه في أي مفاهمة مع طهران على غرار الحال مع وضعية العراق، وقدرة روسيا على احتواء الطائفية النظامية «العلويين» بعد الدالة الكبيرة للروس في تقوية النظام وبناء قواعد جوية وعسكرية في أراضيهم.
الولايات المتحدة ورغم قدرتها على تحريك الملف السوري باتجاه الضغط على كل الأطراف الحلفاء منهم، كتركيا التي تخشى الضغط الأميركي عليها وإسرائيل التي تعاني من تبعات التحركات الأحادية، فإنها لا تزال عالقة في مهمة محددة ذات أبعاد دعائية أكثر من كونها تحقق أهدافاً ملموسة، حيث كان انتصار العهد الأوبامي هو إنهاء تنظيم القاعدة عبر الإطاحة بابن لادن، ويرغب ترمب في الإطاحة بتنظيم داعش وتحقيق هذا النصر الموازي على الرغم من انبعاث «القاعدة» مجدداً، وذهاب جزء كبير من نشاط «داعش» المؤثر؛ قيادات ومقاتلين أجانب، إلى أجزاء أخرى من العالم شرق آسيا بشكل كبير، وعودة المقاتلين غير المسجلين إلى بلدانهم الأصلية للدخول في حملة تجنيد جديد والقيام بعمليات تحت استراتيجية الذئاب المنفردة.
الحالة السورية الآن تعيش مرحلة «ترتيب الكراسي»، فالنظام يريد أن يكون طرفاً في الحل، لكنه يريد أيضاً أن يجلس بجانبه معارضة لا يعرفها الشارع ولا تؤثر فيه، ومن ثم يتم حصار كل الثورة السورية في مجموعة من المقاتلين الخارجين عن القانون من التكفيريين والقاعديين الذين تقول روسيا إن ثمة احتمالية كبيرة لأن يستولوا على الأسلحة الكيماوية، وبالتالي حتى الروس يقلدون الأسد في استثمار الفزع وإعادة بيعه للمجتمع الدولي غطاء لاستمرار حالة الصمت.
وبحسب مارك بييريني في ورقته عن سوريا لصالح مركز كارنيغي حول النزاع الأميركي التركي الذي يبدو أنه يتجه للتصعيد في الأيام المقبلة، فإن السؤال «إلى أي مدى يريد إردوغان تحدّي سياسة الولايات المتحدة جهاراً؟ وإلى أي درجة سيرغب ترمب في الدفاع عن مصالح الأمن القومي الأميركي ضد إيران وروسيا؟»، وهو ما يعني أن أطراف الحل التي كان يعول عليها السوريون «سوريا الأمة» قد تحولت إلى أطراف أزمة قد تطيل من مأساتهم.
ما يحدث في سوريا اليوم هو أكبر عملية استئثار سياسي عرفتها المنطقة، في محاولة للانفراد بالكعكة الذي وإن بدا واضحاً في الحالة العراقية والسودانية سابقاً، فإنه يتجلى في المشهد السوري اليوم بشكل غير مسبوق، فالمعطيات الجديدة التي أفرزتها لنا الأزمة السورية والتي لعب فيها صمت المجتمع الدولي وتباطؤه وتقاعسه عن طرح حلول جادة أو التفكير خارج صندوق المصالح الضيقة تبدو كارثية جداً، ويوماً تلو آخر تزداد الفجوة بين الداخل السوري الذي يحكمه منطق القوة والغنيمة، والخارج الذي يحاول استثمار التقدم على الأرض في سبيل أجندته السياسية الخاصة.
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنيه