بقلم - يوسف الديني
إن أعظم اختراعات البشرية، بحسب مقولة ويل روجرز ذائعة الصيت، يتمثل في: إشعال النار، والعجلة، ثم اختراع البنوك المركزية! اليوم تتم استعادة هذا المثل بشكل أو آخر مع تعاظم دور الاقتصاد السياسي والسياسات المالية للدول، متجاوزاً ومؤثراً في مسار السياسة التقليدية والمقولات العامة في السياسة والحقوق وتداول السلطة وأشكال التأثير، وهو ما يفسر ظاهرتين في عالم اليوم، وإن كانت قيد التضخم، الأولى عودة الاهتمام من قِبل أجيال جديدة من الشبّان في الولايات المتحدة وأوروبا باليسار الكلاسيكي مدوناته ومقولاته وكتبه التأسيسية، وإن كان التلقي لذلك من ماركس إلى التجربة الصينية يتم بطرق مختلفة، والظاهرة الثانية تبخيس السياسة وذمها على حساب الاهتمام بالاقتصاد السياسي ومتابعة الأخبار المالية، بمعنى آخر صعود نجم بلومبرغ على منصات السياسة التقليدية؛ ما كان له تأثير حتى في أولويات الثقافة وصناعة الترفيه المهيمنة على العالم، وهو ما يمكن اليوم قياسها بسهولة على منصات الترفيه الرقمية «streaming media and video on demand» ومنها نتفليكس وغيرها، حيث صعدت موجات المحتوى كما هو الحال في شبكات التواصل الاجتماعي التي تتحدث عن الثراء السريع، ومكافحة الفقر، وريادة الأعمال، وناقشت المسائل الاقتصادية وفي المقابل الأفلام التي تتحدث عن مسائل متصلة بالنجاحات في سوق العملات الرقمية.
ويمكن قراءة هذه الأهمية اليوم على المستوى العالمي في أولوية الاقتصاد في مراقبة الصعود الكبير للاهتمام بالسعودية خارج الأقواس المعتادة، فهناك حضور كبير ولافت للسعودية الجديدة على مستوى الإعجاب بالأداء السياسي والاقتصادي وقوة ومتانة وتقدمية المؤسسات وخدماتها وتحولاتها الرقمية، وإعادة تفعيل التراث في النسيج الاقتصادي، ومركزية رؤية 2030 التي تقوم على التمحور حول المواطن السعودي وموارد الداخل بوصفهما رأس مال حقيقياً ومستداماً.
وخلال المنتدى الاقتصادي برز هذا التأثير السعودي، حيث وُصفت المملكة بأنها نموذج يُحتذى به على مستوى النمو العالمي، فهي أولاً الأسرع نمواً بين دول مجموعة العشرين خلال العائم الفائت، حيث ارتفع الناتج المحلي بنسبة 8.5 بالمائة، وبالتالي انعكس ذلك على كل النشاطات «غير النفطية»، والاستثمار في موارد الداخل، والانتقال إلى استثمار الفرص في الخارج عبر الذراع التي تشكل ظاهرة في أدائها وكفاءاتها وهي صندوق الاستثمارات العامة، من دون أن يؤثر في القطاع الخاص، وإنما رفع أيضاً مستواه وأداءه واشتراطاته من دون مضايقة، كما رأينا في قطاع العقار حيث بدأ المواطنون يطالبون القطاع الخاص بالارتقاء إلى مستوى الشركات التابعة للصندوق.
الاقتصاد السياسي اليوم تأثيره مباشر في الثقافة والفنون وجودة الحياة، فالحديث اليوم لا يتوقف في السعودية التي استحالت إلى ورشة عمل مفتوحة عن مفاهيم المدن الذكية واستراتيجية المدن، بوصفها موارد دخل بما تملكه من تنوع، وأهمية التخطيط العمراني والحضري، كما هو الحال بالنسبة لصعود أهمية الاستفادة من موارد السعودية الكبيرة ومساحتها الجغرافية الضخمة لتحويلها نقطة جذب على مستوى سلاسل الإمداد العالمية التي يمكن أن تستفيد من موقعها الجغرافي وتسهيلاتها اللوجيستية.
في منصة إدارة المخاطر الشهيرة نشرت ورقة مهمة عن هذه القوة الصاعدة للسعودية والتي فهمت معادلة قوة المؤسسات وأهمية الاقتصاد السياسي على الشعارات، حيث تعمل الشركات الحكومية والخاصة جنباً إلى جنب على تعزيز حملاتها الخارجية لتقدم إمكانات البلاد كقوة ناعمة يمكنها المواءمة مع حاجات الشرق الأوسط والعالم الإسلامي؛ إذ بلغ إجمالي الاستثمار في الخارج من الشركات المملوكة للدولة والقطاع الخاص في السعودية 22.6 مليار دولار في أقل من 11 شهراً من العائم الفائت 2022، وهو ما يشكل ارتفاعًا بأكثر من 2.2 مليار دولار خلال نفس الفترة في عام 2021، ووفقاً لـ«fDi Market» قاعدة البيانات الأكثر شمولاً عبر العالم، قام صندوق الاستثمارات بتوزيع 20.3 مليار دولار في عام 2022 - بزيادة 448.6 بالمائة على العام.
اليوم أصبح شعار السعودية شراكات مستدامة وذات عوائد على الطرفين، وليس مجرد ودائع أو قروض. وهذا لا يلغي بالتالي الدور التنموي الضخم والكبير للمملكة في الشرق الأوسط ومعظم الدول العربية والإسلامية، وهي تنمية غير مشروطة... وهذا ليس تحليلاً أو سرّاً، فقد أشير إليه بوضوح كبير وشفافية. أصبحنا، كما هي الحال لدى المراقبين العقلاء والمنصفين حول العالم، نلمسه في تصريحات المسؤولين السعوديين، ومنهم وزير المالية السعودي محمد الجدعان الذي أكد أن السعودية لها طريقتها واستراتيجياتها التي تقدم بها المساعدات.