بقلم - يوسف الديني
عشرون عاماً مضت على الحدث الذي غيّر الكثير من وجه العالم، وحاولت من خلاله الولايات المتحدة إعادة تشكيل النظام العالمي بدعوى مكافحة الإرهاب، واليوم هناك محصّلة شبه صفرية على مستوى معالجة الأسباب والتحلي بمسؤولية مكافحة الإرهاب، حيث ذهبت تلك الوعود أدراج الرياح على مدرج مطار كابل في الانسحاب الكبير، وبالأمس صرّح الرئيس بايدن عن مفهوم جديد يكتفي بما وصفه بـ«المراقبة والتعطيل»، مؤكداً أن الخروج من أفغانستان هو إعلان نهاية حقبة الحروب البعيدة؛ وهو ما يؤكد حالة الاستراتيجية الجديدة للتخلي والانسحاب، حيث أصبح العالم اليوم بين الولايات المتحدة العالقة في ذكرى 11 سبتمبر (أيلول) وبين التيارات المتطرفة والجماعات الإرهابية من «القاعدة» ونظرائها التي ما زالت أيضاً عالقة في الفكرة وإعادة إنتاجها والتجنيد لصالحها.
بين هذا السأم الأميركي وتصريح العديد من الفاعلين في ملف مكافحة الإرهاب بأن ما حدث لم يكن يستحق كل ذلك العناء، فإن حالة إعادة إنتاج التطرف والإرهاب ومجموعات وأجيال جديدة تعيش بهجة الانسحاب الكبير، ويمكن أن يضاف إليه أيضاً قلق العقلاء في المنطقة والعالم حول مآلات هذا «التخلي» على أفغانستان و«طالبان» والشعب الأفغاني وعلى قدرة التنظيمات التي تعيش حالة تبنٍ من قِبل إيران إلى إعادة إنتاج نفسها من جديد وانبعاثها بالتزامن مع فشل عقلنة نظام الملالي في ملف الاتفاق النووي، علاوة على مسألة السلوك وحالة التجريف للسيادة في أكثر من عاصمة عربية.
المزاج الأميركي يعيش حالة ترهل ولامبالاة يجب أن تكون مقلقة للعقلاء في العالم لأنه يشي بأدوار وتدخلات تفاقم من مشكلات العالم؛ لأنها ستكون في حيّز ردة الفعل والتدخلات على طريقة الوجبات السريعة ولا تعكس أي استراتيجية للقدرات الهائلة التي ما زالت تنفرد بها، خصوصاً على مستوى المؤسسات والبرامج ومراكز الأبحاث والتخطيط.
العالم اليوم بعيد جداً عن حالة الاستقطاب التي أعلنها بوش قبل عشرين عاماً، إما أن نكون مع أميركا أو ضدها، حتى بوتين الذي أعلن آنذاك التعاون العسكري معلناً نهاية حقبة الحرب الباردة، هو اليوم مع الصين ومنافسي أميركا وحتى أعدائها أكبر من يتربصون تداعيات الانسحاب الكبير من المنطقة.
المنجز الأميركي اليوم بات مجرد استهدافات لقيادات وأعضاء «القاعدة» البارزين، لم تسحق «القاعدة»، بل تذررت إلى جماعات متعددة نشطة في بلدان كثيرة من العالم، ولدى منافسيها من «داعش» إلى التنظيمات المحلّية أجيال جديدة مقطوعة الصلة بـ11 سبتمبر، لكنها مملوءة الذاكرة بإرث ما حدث ومحتوى وتنظير وميديا «القاعدة» وأخواتها، لكن الإرث الأكثر قتامة هو تلك البلدان التي تحولت إلى مناطق توتر وبؤر إعادة إنتاج للعنف ومعسكرات مفتوحة لهجرات المقاتلين بلا أمل في المستقبل، وكانت كارثة إدارة بايدن في كابل اللقطة الأخيرة في مسلسل التخلي «البشع» لكل من راودهم الأمل من الأفغان في حياة مختلفة عن هذا العود الأبدي لمربع العنف.
الولايات المتحدة اليوم في حاجة إلى الحوار مع الذات أكثر من مسرحة حدث 11 سبتمبر في كل سنة وإعادة إنتاج ملف الاتهامات والتفسيرات والتحيّزات التي فقدت مفعولها أمام مصطبة الواقع ومسطرة الحقائق المدعومة بالأدلة. المراجعة الجادة وكشف حساب ما حدث في الداخل الأميركي مهم اليوم أكثر من أي وقت مضى، حيث الخطابات المتطرفة المتعاطفة مع فكر «القاعدة» وأخواتها لا تزال حاضرة بقوة، خصوصاً في الفضاءات الرقمية وبلغات عالمية، حيث أصبح خطاباً معولماً له محاضنه في أزقة الغرب وشوارعه وضواحيه أكثر من البلدان الإسلامية لأسباب كثيرة ليس هذا محل شرحها.
ما قاله لنا الإرهاب منذ بداياته أنه بلا لون أو جنسية أو دين، فكل عملية إرهابية تضرب بفوضاها عالم اليوم، ترسخ الاعتقاد أن التطرف والعنف حالة مستقرة تنتظر مسبباتها وليس مجرد احتقان أو موجة عابرة... تختلف المرجعيات وتتباين الدوافع، لكن يظل المحرك والخطاب النظري متشابهَين، حيث التعصب لا دين له ولا مذهب.
والحال، أن الأوضاع في المنطقة تغيرت كثيراً خلال عقدين؛ وهو الأمر الذي يضع مسؤولية كبيرة أمام الولايات المتحدة في طريقة إدارتها العلاقات الدولية واستراتيجية الحوار مع هذه المتغيرات الجديدة، ليس فقط على شكل براغماتي يحاول التواصل مع الخطابات الغالبة أو المهيمنة بقدر حاجتها الماسة إلى إعادة كشف حساباتها على أساس تلك التحولات، وما أحدثته من مستجدات على مستوى الخطاب الثقافي والاجتماعي، وليس السياسي فقط.
وبالضرورة، فإن استبدال هذه الانكسارات العميقة والجراحات المفتوحة المتمثلة في بلدان مؤهلة لعودة العنف مجدداً في أفغانستان وسوريا والعراق والصومال ولبنان بهذا الإلحاح على إرضاء النخبة السياسيين بتوحيد خطاب العداء والقلق من الصين، هو إعلان ذاتي بانتهاء حقبة القطب الواحد، لكنه يفتقد أيضاً الكثير من استعداد الحلفاء وحتى المجتمعات والأفراد المأخوذين بالحلم الأميركي والتجربة الأكثر إلهاماً إلى القفز في القوارب الأميركية المضطربة في إبحارها نحو السيطرة على الانتخابات وإرضاء الطبقة الوسطى. لا أجد خاتمة أجمل من تعبير مجلة «الإيكونوميست» الأنيق في تعليقها على ذكرى 11 سبتمبر، ناصحة إدارة بايدن «كل سياسة خارجية مشحونة بالنزاعات المحلية الضيقة لا يمكن أن تؤهلك لقيادة العالم»!