بقلم-يوسف الديني
لم تخرج قضية بعيداً جداً عن مسارها مثلما يحدث الآن مع قضية اختفاء الإعلامي السعودي جمال خاشقجي، فهي قضية تحولت من بعدَيها الجنائي والأمني وما يتصل بطبيعة العلاقات الدولية فيما يخص غياباً أو اختفاءً على أراضي دولة أخرى، إلى قضية استهداف للسعودية، الدولة الأكثر تأثيراً، ليس في صعيد المنطقة ودول العالم، بل تحولها إلى «علامة فارقة» لأعدائها والمناهضين لسياستها وحضورها الطاغي أخيراً على أكثر من صعيد، وهذا ما نلحظه بشكل كبير على مستوى البحث والتعليق والتداول لأي موضوع يخص السعودية اجتماعياً أو يتصل بالأحداث اليومية، فضلاً عن أن يكون بحجم اختفاء شخصية عامة بارزة في ظروف غامضة وغريبة.
سأتحدث عن جمال خاشقجي كحالة إشكالية (case)، لسببين؛ الأول أن قراءة ما يحدث الآن خصوصاً في الهجمات الشرسة المنظمة والشبكية وبكل الأدوات تجاه السعودية، تمثل حالة سياسية أكثر من كونها ممارسة تجاه أحداث معينة، فهناك تحولات ولدت منذ فترة في التعامل مع الملف أو الحدث السعودي، وتحديداً مع بداية صعود ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الذي يتم اختزال استهدافه تعبيراً عن رفض «السعودية الجديدة» الطموحة الجريئة والرافضة للانسياق ضمن سياسة الانكماش تجاه ملفات سياسية خارجية، لأنها جزء من رؤيته في الانتقال الشامل والشفافية التي يجب ألا تقتصر على الجانب الاقتصادي. والسبب الثاني هو أن الحديث عن الحالة وليس ملابسات القضية أو الشخص جزء من احترام الإجراءات القانونية، إذ إن الملف رغم كل يقينيات وكالات الأنباء والصحف الأجنبية ذات النسخ العربية، وهي يقينيات صنعتها أوهام «الجزيرة» الرائجة في مثل هذه الحالات، فإن احترام الأطراف المعنية السعودية وفي تركيا جزء مهم، لأن باقي الأطراف ليست معنية في حال عدم وجود أي دليل أو عدم الوصول إلى نتائج ودلائل إلا بأن تحرص على كشف الحقيقة وليس المساهمة في الضغط أو الابتزاز السياسي الذي يعد جزءاً من منظومة الخلل الكبير الذي يطول مفهوم «السيادة» للدول، وجزء من السيادة احترام التحقيقات خصوصاً بعد توجيه خادم الحرمين الشريفين بالبدء بها والشروع فيها من داخل السعودية تعبيراً عن المسؤولية الأخلاقية المطلقة تجاه اختفاء مواطن بغض النظر عن مواقفه السياسية أو تحولاته الفكرية أو ملابسات الشخص وليس ما تمليه «الحالة» (case) من قراءة كلية تنظر إلى السياق العام وليس الجزئيات.
في السياق العام، استهداف السعودية اليوم ليس جزءاً من مناكفة الدول عديمة الوزن والتأثير أو التي ترجو أن يقودها الابتزاز في سلوك يشبه اختطاف الميليشيات أفراداً غربيين للضغط على دولهم، فذلك سياق كما هو متفهم في الميليشيا فهو الآن متفهم في الدول وقنوات الإعلام كـ«الجزيرة» التي تلبست سلوك الميليشيات ونهجها في هذا الابتزاز مستغلة ثغرات هائلة يمر بها الإعلام اليوم حول الشره المحموم لجلب الزبائن الذين تغير سلوكهم أصلاً نحو الإعلام التقليدي خصوصاً المتلفز، حيث أصبح المتابع يتجه نحو تتبع الإثارة بشكل كبير خصوصاً بعد أن تصدرت منذ سنوات قضايا التطرف والإرهاب إضافة إلى القطيعة بين الدول أو غرائب الملفات، وهو ما يفسر على سبيل المثال الشعبية الطاغية لبرنامج مثل «سري للغاية» في «الجزيرة» رغم أن محتوى المادة على المستوى التحقيق الصحافي أقرب إلى نسج الخيالات.
في ملابسات الحالة أيضاً، نلحظ دخول استراتيجيات جديدة على خط التغطية الإعلامية للدول المعادية والمستهدفة للسعودية، فهي تجاوزت النقد إلى محاولة المساس بالإدارة السياسية الشابة الصاعدة، فما يحدث اليوم هو استهداف لمشروع الأمير محمد بن سلمان، وهذا عائد إلى أسباب كثيرة أكثرها جوهرية أنه شكل استثناء سعودياً على مستويات كثيرة أبرزها مساران مهمان للغاية؛ الأول أنه يعكس مشروعاً تحولياً مستداماً للسعودية، فهو يطرح رؤية طويلة المدى ومشاريع كبيرة على مستوى التمويل والشراكات التي تعني إنعاش السعودية استثمارياً، إضافة إلى أن الإدارة تعكس ديمومة سياسية شابة من المفترض أن يمتد تأثيرها ورؤيتها لعقود. المسار الثاني هو أن ولي العهد السعودي سمى الأشياء بأسمائها، لم يواجه الإرهاب بخطابات فضفاضة بل دخل في تفاصيل الأزمة، سمى دولاً مارقة وآيديولوجيات متطرفة، بل كان شجاعاً في الاعتراف باختطاف المجتمع من قبل تنظيمات وأفكار أسهمت في إعاقة عجلة التنمية رغم وفرة الموارد وقلة التحديات على مستوى البطالة وعدد السكان وآليات الاقتصاد شبه الريعي الذي ترفضه السعودية اليوم وتتجه نحو اقتصادات الخصخصة، ولا شك أن تفاصيل هذا الاستثناء السعودي أزعجت كثيراً من أعدائها الذين لا يحتملون سعودية تنافس على كعكة الاستثمار العالمي والخصخصة وتؤمن بقيم التحديث وتحارب الإرهاب وتكافح التطرف وتمكن المرأة وتسعى إلى خلق مجتمعات رفاه جاذبة.
الإدارة السعودية الشابة لم تقف عند التحولات الجذرية على مستوى الداخل، بل أعادت تأسيس فلسفة جديدة على مستوى السياسة الخارجية بعدم الارتهان إلى تحالفات دولية مطلقة، وهو ما لمسنا نتائجه في تغير معادلات المنطقة الإقليمية سياسياً في ظل صعود سعودي وتراجع لقوى إقليمية على رأسها إيران وذيولها الأصيلة والهجينة التي استبدلت بها التحالف مع الدول الأقليات والميليشيات وحتى الكتل السياسية المعارضة من الإسلام السياسي السني والشيعي على حد سواء، وداخلياً سعت بكل ثقلها إلى تثبيت أمنها الداخلي في أكثر لحظات المنطقة حرجاً (الربيع العربي) التي حملت كبار المحللين السياسيين في الولايات المتحدة وأوروبا على إطلاق السؤال: كيف صمدت السعودية؟ وسيكون هذا السؤال المتكرر مع أزمة جديدة سواء باختلاق «حلاج سياسي» أو قميص عثمان جديد.
نقلا عن الشرق الاوسط
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع