بقلم - يوسف الديني
لم يكن انقلاب النيجر حدثاً مفاجئاً بقدر ردود الأفعال وتأثيراته على دول غرب أفريقيا والمقاربة الغربية، خصوصاً فرنسا، فالانقلابات منذ استقلال الدول الأفريقية بشكل عام تجاوزت 187 انقلاباً عسكرياً. ملف النيجر الذي يجب أن يكون محل اهتمام دول الخليج، خصوصاً السعودية القادرة بحكم «فضيلة الحياد» ومركزية تمثيل الإسلام المعتدل، والسجل الناجح في القطيعة مع الإرهاب، تمويلاً وتجنيداً ومكافحة، يمكن أن تلعب دوراً على الأقل لتخفيف آثار الأزمة وتأثيراتها، حيث البلد الذي يعيش فيه 93 في المائة من المسلمين السُّنة وتشكّل الحالة الدينية فيه سمة بارزة كان من تمظهراتها إقحام وفد الوساطة من علماء الدين النيجريين في محاولة لمنح اللاعبين الأساسيين في تشكيل الرأي العام فرصة.
الأكيد أن المقاربة الفرنسية حتى الآن أسهمت في تأزيم الوضع، ويمكن القول ببساطة إن التأثيرات التاريخية والثقافية لفرنسا تتمدد، ورعاية الفرنكوفونية تمر بأصعب حالاتها وتحولاتها، فالقوة الاستعمارية المهيمنة على القارة لأكثر من قرن ونصف على مفترق طرق بعد حدث النيجر خصوصاً مع انتهاء السيطرة على عدد من الدول المجاورة وضعف النفوذ وتكرر الانقلابات التي تقوم هويّتها ودافعها على شعارات معادية لفرنسا، هذا إذا ما أخذنا في الاعتبار حضور فاعلين جدد من روسيا إلى الصين، وتسعى كل منهما بشكل متسارع لإيجاد قاعدة صلبة من الحضور عبر توسيع النفوذ الجيوسياسي بسبب الرغبة في الوصول إلى الموارد الطبيعية الهائلة والأسواق التي يمكن أن تغيّر موازين وتوازنات القوى هناك.
هناك ما يشبه الصحوة الشعبية المعادية لفرنسا في غرب أفريقيا، وهو ما يفسر برود الكتل المجتمعية تجاه الانقلاب إضافةً إلى أن حال التحول إلى عضوية الكومنولث لبعض الدول، وآخرها الغابون وتوغو في 2022، تعطي إشارة إلى تراجع النفوذ الفرنسي على مستوى علاقة اللغة والخلفية الثقافية بالاقتصادات الأسرع نمواً، ويضاف إلى ذلك صعود كبير في ثقافات السنكارية المرتبطة برئيس بوركينا فاسو، توماس سانكارا، التي تطرح شعارات الوحدة الأفريقية واستغلال المستعمر، وتوزيع الثروة وصولاً إلى الاكتفاء الذاتي ومناهضة الإمبريالية، هي شعارات سرعان ما تصل إلى الجماهير وتغيّر في الديناميكيات الداخلية لتلك المجتمعات، خصوصاً أن التعالي «الأبيض» ووصمه إياها بأنها مجتمعات بدائية ما قبل تاريخية بسبب حالة الفقر وضعف مؤسسات الدولة، غفل عن انتشار كبير للتقنية وتدفق هائل للمحتوى المناهض على منصات التواصل الاجتماعي التي تقود الحشود اليوم وتعيد ترتيب أفكارهم ضمن موجات غضب وكراهية عالية المستوى، والمفاجأة أن الجماعات الإرهابية اليوم، خصوصاً «القاعدة» وأخواتها و«داعش»، تتنافس على حصد أكبر قدر من كعكة «السخط» لإعادة الاستثمار في غرب قارة أفريقيا، وتلك قصة أخرى لا بد من العودة إليها لاحقاً لا سيما مع الأرقام المخيفة التي أبرزها تقرير المؤشر العالمي للإرهاب 2023 (Global Terrorism Index 2023).
لا يمكن اليوم فهم حالة النيجر إلا ضمن السياق العام لدول أفريقيا والمقاربة المتمثلة في «عسكرة الموارد» وليست الشراكات، ففي حالة النيجر على سبيل المثال رغم حالة الفقر المدقع فإنها أهم مصدر لليورانيوم الرخيص الذي ينتج الكهرباء عبر الطاقة النووية بينما يحصل النيجريون على 75 في المائة من الكهرباء من نيجيريا!
هناك انهيار بنيويّ، إذا صح التعبير، في قارة أفريقيا وحتى الحديث اليوم عن استعادة الشرعية أو الديمقراطية التي أثبتت الوقائع أنها غير صالحة للاستنبات، هناك من يتجاهل الواقع ويستثمر في الشعارات، ومن يلاحظ مسميات مجالس الانقلاب يدرك أن صعود مركزية السلطة وحالة العسكرة مدفوعة بشعور قومي متوتر «المجلس الوطني لحماية الشعب – النيجر»، و«اللجنة الوطنية لإنقاذ الشعب»... إلخ.
إزاء حالة الفوضى كانت الأيام السابقة قد شهدت عودة كبيرة للمحتوى العنفي واستعراض القوى من التنظيمات المتطرفة في النيجر، منها «القاعدة»، وجماعة «بوكو حرام»، وفرع «داعش» بغرب أفريقيا (إيسواب)، الأكثر تسليحاً ودموية وقدرة على التجنيد، وهو أمر محزن تماماً إذا ما قرأنا تحولات الشباب الموجوعين من الأوضاع واعترافاتهم التي لا نكاد نجد لها صدى يوازي حالة الابتزاز السياسي أو البراغماتية على الموارد في اعتراف لشاب انضم إلى أحد تلك التنظيمات كانت إجابته كاشفة: «لا أعرف الكثير عن أفكار هذه الجماعات من قبل، أنا مجرد شاب فقير مسلم يبحث عن وجبة من اللحوم ودراجة هوائية، وقد منحوني ذلك»!