بقلم - جمال طه
بعد عشرين عاماً من الحكم، قضى منها ستة ملازماً لمقعد متحرك، نتيجة جلطة دماغية، أعاقت قدرته على الكلام، وعرقلت مهامه المراسمية، غادر إلى جنيف، لإجراء جراحة لازمة، لكنها تعذرت بسبب حالته الصحية، وعاد ليقدم أوراق ترشحه لولاية خامسة، مشروطة بترتيب شئون الخلافة، وتنظيم انتخابات رئاسية خلال عام، لن يترشح فيها.. عبدالعزيز بوتفليقة أدرك أن الجزائر فوق بركان.
منذ إعلان ترشحه فى 10 فبراير انطلقت الاحتجاجات الشعبية بصورة شبه يومية.. اجتاحت الجامعات، وانتشرت بالمحافظات، شارك فيها لأول مرة إعلاميو التليفزيون والإذاعة الوطنية، مطالبين برفع الحظر عن تغطيتها، ما يفسر بث فعاليات مليونية الجمعة 22 فبراير، التى شاركت فيها جميلة بوحيرد، المناضلة وزميلة الكفاح إبان حرب التحرير، وتخللتها اشتباكات سقط فيها نجل يوسف بن خدة، أحد أبطال حرب التحرير، وأول رئيس حكومة بعد الاستقلال، وأصيب 63 معظمهم من الشرطة، واعتقل 45.. السلطات أوقفت المترو والسكك الحديدية لمنع دخول المحتجين وسط العاصمة، مواقع التواصل الداعمة للحكومة حذرت من الاحتجاجات، واتهمت قوى أجنبية بدعمها لزعزعة الأمن والاستقرار، وخطباء المساجد حذروا من «الفتنة»، لكن بعض المصلّين اتهموهم بالرياء!!.
المعارضة اتفقت على تأييد الاحتجاجات.. لجان الإخوان، والتنظيم الدولى دعمتها بعد منع على بلحاج، الرجل الثانى فى «الجبهة الإسلامية للإنقاذ»، من الترشح للرئاسة، للمرة الثانية منذ الإفراج عنه 2003، شريطة حظر ممارسة النشاط السياسى.. طلبات الترشح الرسمية بلغت 21؛ أبرزهم «بوتفليقة»، عبدالرزاق مقرى، رئيس حزب حركة مجتمع السلم «حمس»، ذراع الإخوان السياسية.. اللواء متقاعد على الغديرى، على بن فليس، رئيس حزب طلائع الحريات، على زغدود، رئيس حزب التجمع، عبدالحكيم حمادى، المرشح المستقل، عبدالعزيز بلعيد، رئيس جبهة المستقبل، عبدالقادر بن قرينة، رئيس حركة البناء، عدول محفوظ، رئيس حزب النصر.. أما لويزة حنون، زعيمة حزب العمال اليسارى، المرشحة السابقة، فقد أحجمت عن المشاركة، وحزب «جبهة القوى الاشتراكية»، أقدم حزب معارض، دعا للمقاطعة.
أهمية الجزائر لفرنسا «استراتيجية»؛ لأن عدم الاستقرار يعرقل تدفق 10% من احتياجات باريس من الغاز الطبيعى، يجتذب التنظيمات الإرهابية، يؤدى إلى هجرة من الجزائر ودول جنوب الصحراء، ويضاعف التهديدات الموجهة لمالى ومنطقة الصحراء والشمال الأفريقى، ويعرقل دور المخابرات الجزائرية فى الحرب ضد الإرهاب، رغم ذلك استغلت المخابرات الفرنسية حساسية موقف «بوتفليقة» وقررت استهدافه بسهم مسموم؛ صحيفة «لو نوفيل أوبزرفاتور» نشرت فى 26 فبراير وثائق سرية، تطعن فى ماضيه، وتحاول القضاء على رصيده السياسى.. وصفته بـ«مكيافيلى، ومرتشٍ، عديم الضمير»!!.. وأكدت أنه نجح فى إقناع «بومدين» بالتخلص من «بن بلة»، لأنه قرر إقالته من منصبه كوزير للخارجية.. ثم كان العقل المدبر للانقلاب ضد «بومدين» نفسه.. ونجح فى الوقيعة بين الأخير وحرمه «أنيسة بومدين»، ما أدى لإبعادها عن الحياة العامة.. الوثائق اتهمت «بوتفليقة» بالتورط فى اغتيال المجاهد كريم بلقاسم فى فرانكفورت، أكتوبر 1970، ضمن تصفية بعض المعارضين السياسيين.. وذكَّرت بإشارة «بوتفليقة» خلال محادثاته مع الوزير الفرنسى لويس دوجيرينجو إلى أنه يعتبر الجزائر «الابنة الروحية لفرنسا».. وتضمنت قرار اتهام محكمة الحسابات الجزائرية لـ«بوتفليقة»، 1983، باختلاس مبالغ كبيرة من فائض ميزانية السفارات، وهو الاتهام الذى فنّده «بوتفليقة» آنذاك رسمياً، ما يؤكد أن الهدف من التسريبات ليس كشف حقائق، بل إطلاق «رصاصة الرحمة» على أحد مناضلى حرب التحرير.
النظام فى أزمة؛ بعد تسريب الاتصال التليفونى بين على حداد، رئيس «منتدى رؤساء المؤسسات الاقتصادية»، الداعم للحكومة، وعبدالمالك سلال، مدير الحملة الانتخابية لـ«بوتفليقة»، الذى نقل خلاله الأول تخوفات المخابرات من امتداد الاحتجاجات لوسط البلاد، ليطمئنه الثانى بأنها «لن تمتد، حتى لو اضطررنا لاستخدام القوة».. «بوتفليقة» بادر بتنحية «سلال» وتكليف وزير النقل، عبدالغنى زعلان، بالحملة، رغم ذلك استمرت توابع الزلزال؛ محمد بن عمر، نائب رئيس «المنتدى»، ومالك أكبر مجمع للعجائن، وحسان خليفاتى، مدير «أليانس للتأمينات»، استقالا من «المنتدى»، وسبقهما محمد أبركان، مدير «سوجى ميتال»، بعد رفضه الولاية الخامسة، والانحياز للمحتجين.. على حداد، رئيس «المنتدى» وأكبر ملياردير جزائرى، أصبح فى عزلة، لأنه سبق أن هدد المحتجين باستعمال القوة، ووظّف شبكة القنوات والصحف التى يملكها لخدمة شبكة المصالح التى يمثلها «سلال» والسعيد بوتفليقة، شقيق وكبير مستشارى الرئيس.. مجموعة الموالاة والمحيطون بالرئاسة قارب دورهم على الانتهاء بيد «بوتفليقة» نفسه، ما يفسر الترتيب لتكليف رمطان لعمامرة بتشكيل الحكومة خلفاً لأحمد أويحيى، والإطاحة بمعظم الوجوه على الساحة.
الجزائر مستهدفة بمؤامرة كبرى، تؤكدها تسريبات وثائق الخارج واتصالات الداخل، تسعى إلى فتح ثغرة جديدة بالشمال الأفريقى، بعد أن أفسد تعاون الجيش الوطنى الليبى مع مصر المخططات الإرهابية بالمنطقة.. «بوتفليقة» نجح عبر عقدين من الزمان فى استعادة السلم الأهلى، وإتمام المصالحة الوطنية بعد «العشرية السوداء»، وشيَّد البنية التحتية بالمناطق النائية.. اضطره المرض لقيادة الدولة بإشارات مايسترو، ما أتاح تفعيل دور المؤسسات، وسمح لها بالنضج والتفاعل.. وصولاً إلى التوازن الراهن داخل السلطة، بين الجناح السياسى «كتلة الرئاسة، أحمد أويحيى، رئيس الحكومة، المدعوم من «المنتدى»، جبهة التحرير، وأحزاب الموالاة»، وبين الجناح العسكرى «قايد صالح، قائد الجيش، وبن على، قائد الحرس الجمهورى».. ثم الأجهزة الأمنية بإشراف الجنرال عثمان طرطاق «بشير».. هذا التوازن يتعرض حالياً لتغيرات جذرية؛ نتيجة تراجع قوة الجناح السياسى، وتفكك «المنتدى»، وتنحية «سلال»، ونية الإطاحة بـ«أويحيى»، وأزمة البرلمان التى عرقلت أعماله، والفساد الذى يعشش فى أركان الدولة.
إعادة انتخاب «بوتفليقة»، المشروط ذاتياً بقيد زمنى لا يتجاوز العام، هو أكثر البدائل المطروحة أماناً، لأنه يحول دون سقوط النظام، وتهديد أمن الوطن والمواطن، يتلافى مخاطر سوء الاختيار، يمنع وصول عملاء المحتل القديم، أو «مندوب الجماعة الإرهابية» إلى الحكم، ما يتيح ترتيب انتقال آمن للسلطة، يحمى الجزائر من الانزلاق لفوضى خريف عربى جديد.. «بوتفليقة» المجاهد الوطنى لن يقبل إنهاء مساره السياسى بالفشل، ما يعزز الثقة فى أنه الاختيار الأكثر أماناً.
تأثرت على غير العادة حين غادرت الجزائر، بعد انتهاء مدة خدمتى كقنصل عام لمصر منتصف التسعينات.. فالجزائر «وطن» يحكى كل شبر فيه ملحمة، تُشَرِّف أمَّة.. دعوت وما زلت سلام الله عليها، ورحمته وبركاته.
نقلا عن الوطن
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع