مقال الجمعة الماضى (الاغتيال الثانى لـ«الملاك»!!)، حظى بالاهتمام، تعددت دعاوى اللقاءات الإعلامية، لكننى اعتذرت، فحساسية الموضوع تفرض الحذر، وتجنب تحويل الموضوع لوجهات نظر.. بعض الفضائيات عرضته بمهنية، والأخرى «اقتبسته»!!، والثالثة تعرضت للموضوع بطريقة «لب، لب، لاب».. لكن المهم، أن المياه الراكدة قد تحركت.. تزعزعت الثقة فى مصداقية مؤلف «الملاك»، والرقابة أفرجت عن فيلم «العميل»، المحتجز منذ عامين.. ما يشجع على توضيح بعض التفاصيل والحقائق للرأى العام، الذى أبدى اهتماماً بالقضية.
أولاً: لست معنياً بالدفاع عن شخص أشرف مروان، وإنما بالتصدى لمحاولات تشويه أجهزة مصر السيادية، والتشكيك فى نصر أكتوبر المجيد.. الموضوع يتعلق بأمننا القومى، تناوله يفرض ضوابط ينبغى الالتزام بها، أهمها عدم تجاوز حدود المعلومات التى خرجت رسمياً عن الجهات السيادية.. والحقيقة أنها محدودة على نحو فرض جهداً إضافياً لاستخلاص الحقائق من ثنايا تناقضات المواقف والمصالح والروايات الصادرة عن الأطراف المتنازعة فى إسرائيل.
ثانياً: خطورة كتاب وفيلم «الملاك» أنه ليس إنتاجاً درامياً، وإنما عمل مخابراتى، اختير مؤلفه، يورى بار جوزيف، من ضباط المخابرات العسكرية الإسرائيلية «أمان»، التى فضحت الموساد، بكشف حقيقة دور «مروان» فى خدمة خطة الخداع الاستراتيجى التى نفذتها مصر، مهمة «جوزيف» التشكيك فى معلومات «أمان»، من داخلها، لاكتساب المصداقية.. وخطورته أنه مؤهل جيداً، درس العلوم السياسية بجامعة حيفا، وعمل كمحلل بوحدة الأبحاث بالجهاز، كما تمرّس على الإعلام.. كل حرف خطه فى الكتاب ينفث سماً زعافاً.
ثالثاً: «الملاك» يوجه العديد من الرسائل، لفئات مختلفة، كل بلغته.. الأولى: لشبكات التجسس الإسرائيلية بالخارج، لتأكيد قدراته المهنية، واستعادة الثقة، ما ييسر مهمته فى الاقتراب والتجنيد لعناصر جديدة داخل الأهداف الحيوية.. الثانية: للرأى العام المصرى، ضمن محاولات التشكيك فى المؤسسات السيادية للدولة، وزعزعة الثقة فى قدراتها المهنية، وولائها للوطن.. الثالثة: للرأى العام العالمى دعماً للصورة الدولية للموساد، وتأكيد تفوقه على الأجهزة العربية المناظرة، انطلاقاً للهدف الأكبر، وهو محو الصورة السلبية التى تشكلت بعد هزيمة 73، وتكوين صورة أخرى وردية، تعكس انتصاراً يستحق الزهو.. هذه الأهداف تتحقق بصمت مصر، لكنها تتحطم على صخرة الحقيقة.
رابعاً: توقيت إنتاج «الملاك» يستحق التوقف، فهو يتزامن مع ترتيبات استراتيجية لإسرائيل تتعلق بتنفيذ حلمها القومى.. دمرت كل الدول التى هددت بإبادتها «العراق وسوريا وليبيا».. ضمت الجولان رسمياً.. القدس عاصمة موحدة.. إسرائيل دولة قومية يهودية.. مدت جسور التعاون مع دول مجلس التعاون.. وتبقى غسيل ما علق بسمعتها الدولية من عار نتيجة هزيمتها فى حرب 73.
خامساً: الإعلام الإسرائيلى تناول دور «مروان» على مراحل، فإسرائيل بعد الحرب أدركت أنها ابتلعت طعم مصر، لكنها صمتت، لخشيتها على سمعتها، تمرد إيلى زعيرا، مدير المخابرات العسكرية، على قرار إنهاء خدمته، وتحميله مسئولية الفشل فى الاستعداد للحرب، دفعه للدفاع عن نفسه وكشف خديعة «مروان»، فبدأت إسرائيل تتحدث عنه باعتباره عميلاً مزدوجاً.. استعانة «زعيرا» بوثائق حرب 73 التى أفرجت عنها إسرائيل فى كتابه «حرب يوم الغفران»، أحرجها بشدة، صادرت الكتاب فاتسع انتشاره، ما يفسر دفع «زامير»، مدير الموساد السابق، للجوء للمحكمة العليا، لاستصدار حكم يلوى الحقيقة، ويدعى أن «مروان» جاسوس إسرائيلى خالص!!.
سادساً: الإعلام المصرى فى المقابل، قدم وجهات نظر متباينة، رغم أنها قضية وطنية كانت تفرض التوحد، ولكن بيننا طابور خامس طويل، بل جيش من المشككين فى كل شىء، مناقشات بيزنطية، وأسئلة تتصف بالسخف: «مروان أبلغهم بموعد خطأ للحرب، فلماذا يبلغهم أصلاً؟!».. هؤلاء يتجاهلون أن هناك أقماراً صناعية، واستطلاعاً جوياً وإلكترونياً، ومراقبة ميدانية، ترصد إجراءات التعبئة، ومظاهر الفتح التعبوى والاستراتيجى للقوات، لذلك فرضت خطة الخداع تضليل العدو، لتوفير مهلة فى حدود ست ساعات، تتمكن خلالها القوات من العبور، وإنشاء رؤوس كبارى على الضفة الشرقية، قبل أن يبدأ الهجوم المضاد، وهو ما نجحت فى تحقيقه الخطة.
سابعاً: المواطن البسيط له كل العذر، فيما يعانيه من بلبلة، فكل من تصدى لتحقيق ما تردد عن «مروان» اعتمد على مصادر كانت مسئولة أواخر حكم «عبدالناصر»، وبدايات حكم «السادات»، أمين هويدى نفى قيام الجهاز بدفع «مروان» للعمل مع الموساد، كجزء من خطة الخداع.. سامى شرف أكد: «لو أن عبدالناصر علم بما فعل مروان لأطلق عليه الرصاص»، «هويدى» غادر الجهاز قبل بدء العملية، و«شرف» فقد وظيفته، وآلت لـ«مروان»، وهما، مع بقايا نظام «عبدالناصر»، تعرضوا للاعتقال فى أزمة مايو 1971، التى انحاز فيها «مروان» لـ«السادات».. شهاداتهم مجروحة، ولا يمكن الاعتداد بها.
ثامناً: حتى محمد حسنين هيكل، شيخ الكتاب والمحللين، طالب «مبارك» بالتحقيق مع «مروان» فيما تردد عن علاقته بالموساد، لكن الرئيس السابق كان يدرك أن موقفه ينبع من كراهية شديدة لـ«السادات» ولـ«مروان»، لذلك تجاهل طلبه، فالدولة تفتح تحقيقاً لمعرفة الحقيقة فى أمر ملتبس، لكنها كانت ملمة بكل التفاصيل المتعلقة بالموضوع.. ما يفسر بيان «مبارك» بشأن وطنية «مروان» بعد وفاته.
الوزير محمد عبدالسلام المحجوب، القيادة التاريخية بالمخابرات العامة المصرية، صقر صقور الجهاز، بادر باتصال كريم، ليقدم شهادة تهدم كل الأكاذيب: «كنت مسئولاً عن تدريب مروان قبل دفعه لاختراق الموساد، ضمن خطة الخداع استعداداً للحرب.. شاركت فى تشغيله ضمن طاقم عمل، على أعلى مستوى، ليتناسب وأهمية العملية.. مروان لم يكن عميلاً مزدوجاً، بل كان ضابطاً وطنياً.. أرفض التشكيك فى ولائه». أضاف «المحجوب»: «بكيت فى جنازة مروان، كما لم أبك من قبل.. نعشه لُف بعلم مصر، صلاة الجنازة أمّها الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر، وعمر سليمان، رئيس الجهاز، كان يتلقى العزاء فى مصابنا الجلل.. مصر دولة مؤسسات، يدرك كل منها ما ينبغى عمله، وما لا ينبغى، جنازة مروان المهيبة لم تكن تشييعاً لجثمان جاسوس، وإنما كانت تكريماً لشهيد». سألته على استحياء عن سبب بكائه، وقد عركت من قبل قدر صلابته، أجاب بصوت حزين متهدج: «مروان لم يكتف بما قام به من دور وطنى، وإنما تجاوزه بالتمسك بعدم الكشف عن أسرار مهمته، حتى يبرئ ساحته، وذلك رغم الهجوم الضارى والتشويه الرخيص الذى تعرض له.. رحم الله الشهيد».
عقب انتهاء كلمات «الصقر»، وضعت نقطة، اختتمت المقال.
نقلا عن الوطن
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع