بقلم : جمال طه
سلسلة مقالات «حرب الغاز» بدأناها منتصف فبراير 2018، ضمن عملية تنبيه للعدائيات المرتبطة بالكشوف الغازية شرق المتوسط، وآليات مواجهتها.. المخاطر تتصاعد، ومصر هى المستهدفة، حتى لو بدأ التحرش بقبرص.. تركيا بثت رسالة على خدمة الرسائل البحرية «نافتكس» 3 مايو الحالى، كشفت نيتها التنقيب عن الغاز غرب قبرص، حتى سبتمبر المقبل، وهو مانبهنا إليه بمقالنا «تركيا تقرع طبول الحرب» 5 أبريل الماضى.. الخارجية المصرية حذرت من انعكاس الإجراءات الأحادية على الأمن والاستقرار بالمنطقة، وأكدت ضرورة الالتزام بقواعد القانون الدولى وأحكامه.. الحدث أثار القلق، نبه لجدية التهديدات، وطرح تساؤلات، تفرض إجابات، لمحاور اهتمام الرأى العام.
أولاً: ما الهدف من التصعيد التركى الراهن؟! ولماذا الآن؟!
برنامج التنقيب التركى جاهز منذ فترة طويلة، لكن شركات النفط الدولية رفضت تنفيذه، لعدم ترسيمها للحدود مع جيرانها، ما فرض عليها بناء أسطول خاص للحفر فى الأعماق، وإجراء تجارب ميدانية بمنطقتها الاقتصادية، ثم تنفيذ أضخم وأوسع مناورة بحرية بمشاركة القوات البرية والجوية، أطلقت عليها «الوطن الأزرق» كناية عن المسطحات المائية الخاضعة لسيادتها، والمتنازع عليها.. المناورة استهدفت الردع، والاستعداد لاحتمالات الصدام.. توقيت الأزمة الأخيرة يتزامن مع تورط الإخوان والميليشيات فى طرابلس، وفلول الإرهاب بسيناء، للتخفيف عنهم، ومحاولة دفع العناصر المنسحبة من إدلب لدعمهم، ضمن محاولة تركية لإعادة التموضع بالمنطقة.
ثانياً: ما المنطقة المستهدفة بالتنقيب؟!
أردوغان حذر شركة «إكسون موبيل» من التنقيب فى «المربع 10»، جنوب غرب قبرص، مدعياً أن «شركة النفط الوطنية التركية»، حصلت على ترخيص للتنقيب فيه من جمهورية قبرص التركية، التى لا تعترف بها سوى أنقرة!!.. اختيار المربع يرجع إلى أنه واعد، اكتشف فيه حقل «جلافكوس» البحرى، باحتياطى 5 و8 تريليونات قدم3، والبحوث السيزمية تؤكد أنها مجرد بداية، ما دفع «موبيل» لدراسة إنشاء معمل إسالة بالجزيرة.. ثم إنه ملاصق لـ«المربع 9» منطقة امتياز «توتال»، ولمنطقة ترسيم الحدود مع مصر.. وعلى مقربة من حقل «ظهر».. ويعتبر امتداداً لحوضه الرسوبى بالغ الثراء.
ثالثاً: لماذا تخاطر تركيا بدخول مربع مهم قد يؤدى لصدام عسكرى؟!
تركيا تدرك أن مربعات المنطقة الجنوبية لقبرص مناطق امتياز لكيانات عملاقة، تضخ عائداتها فى اقتصاديات دولها، وبالتالى تحظى بحمايتها؛ «إينى» الإيطالية، «توتال» الفرنسية، «إكسون موبيل» الأمريكية، «روس نفط»، و«الكورية»، ما يفسر تأمين البحريتين الإيطالية والأمريكية لعمليات التنقيب الخاصة بشركاتهما، ضد محاولات التعرض التركية المتكررة.. أنقرة تستهدف المساومة لفرض نفسها كشريك فى ثروات المتوسط، وكلما كان الضغط أقوى، عززت موقفها، وحصلت على حصة أكبر.. وهى تدرك أن توازنات القوى مع اليونان ومصر وقبرص، ليست فى صالحها، وأن اقتصادها لا يحتمل نفقات الحرب.. لكنها تراهن على سرعة تفعيل آليات تسوية النزاعات بين أعضاء «الناتو»، حال وقوع الصدام، بحكم انتمائها مع اليونان لعضويته، كما تراهن على أن امتلاك إمبراطورية روكفلر «إكسون موبيل» لامتياز «المربع 10»، يفرض تدخل الإدارة الأمريكية لاحتواء أى نزاع يمس مصالحها.. الحد الأدنى لموقف تركيا التفاوضى سيكون الإقرار الفعلى لحقها فى التنقيب والاستخراج للثروات الكامنة، فى المربعات الواقعة بنطاق المنطقة الاقتصادية الحرة لجمهورية شمال قبرص المزعومة، وهى منطقة لم تستطع قبرص الاقتراب منها، ولم تمنح امتيازها لأى شركة.
رابعاً: كيف نواجه البلطجة التركية؟!
ينبغى مبادرة مصر بالدعوة لاجتماع استثنائى طارئ لدول «منتدى شرق المتوسط للغاز»، يتم فيه تشكيل فريق عمل متخصص، لمواجهة تركيا قانونياً؛ بسبب اختراقها تسويات «اتفاقية لوزان 1923»، التى تفرض عليها قيداً زمنياً، يحرمها من استخراج وتصنيع النفط حتى 2023، باعتبارها الدولة المنهزمة فى الحرب العالمية الأولى.. والتأكيد على أن عدم انضمام تركيا لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار 1982، لا يعفيها من بعض أحكامها، لأنها دولة ساحلية تطل على بحار دولية، وملزمة بتعيين العلامات البحرية المحددة لبحرها الإقليمى، والمنطقة الاقتصادية الخالصة، وتعيين الحدود البحرية مع الدول المجاورة والمقابلة، ثم إيداعها مشفوعة بالخرائط لدى الأمم المتحدة، قبل بدء عمليات التنقيب.. والأهم تشكيل غرفة عمليات لتبادل المعلومات المتعلقة بالمخاطر التى تهدد حقول الغاز، واقتراح آليات مواجهتها.. مصر ينبغى أن تؤكد على أنه «لن يتسنى ردع تركيا، التى تنتهج سياسة «حافة الهاوية»، إلا بإقناعها بأننا نتحين فرصة اقترابها منها، لإلقائها فيها».
خامساً: علامَ تعتمد حسابات السياسة الخارجية التركية فى تعاملها مع الأزمات الإقليمية؟!
هناك خلل جسيم فى إدارة السياسة الخارجية التركية؛ أردوغان يديرها «بالقطعة»، وبرؤية ضيقة؛ بدأ بادعاء البحث عن حقوقه فى الجرف القارى، ورفض كل اتفاقات ترسيم الحدود، وعندما اكتشف ضعف موقفه، اعتبر نفسه ضامناً لحقوق القبارصة الأتراك، فى مواجهة نيقوسيا، فازداد موقفه ضعفاً.. اختلف مع أمريكا، وارتبط بروسيا بعلاقات استراتيجية، سمحت بإمداده بشبكة الدفاع الصاروخى S-400، ثم طعن موسكو من الخلف، وأجرى مباحثات مع واشنطن لإقامة منطقة آمنة شرق الفرات، فأثار غضبهما.. رفض طلب روسيا بالتحرك ضد هيئة تحرير الشام فى إدلب، فأفسد الجولة الثانية عشرة من مباحثات أستانة.. موسكو ردت على خداعه بقصف جوى لإدلب، خلافاً للاتفاقات الموقعة، وسوريا قصفت نقاط المراقبة التركية ومناطق تخضع لسيطرتها فى إدلب وعفرين.. أردوغان تجاهل أن المصالح الروسية تتعارض مع أى صدام بالمنطقة؛ بسبب شراكة «روس نفط» فى حقل «ظهر» بـ30%، وفى حقوق الامتياز بـ«المربع 9» جنوب قبرص، ما يفسر دعوة الخارجية الروسية تركيا إلى عدم اتخاذ إجراءات من شأنها إثارة التوتر، وتأكيدها على أن أى نشاط اقتصادى ينبغى أن يتوافق مع قواعد القانون الدولى.. والأغرب إغفاله امتلاك حليفته قطر لـ40% من امتياز «المربع 10»، ما يفسر امتناعها عن تأييده.
ما ينبغى التنبيه إليه، هو سعى تركيا لأن يؤدى التوتر العسكرى إلى رفع تقييم المخاطر والغطاء التأمينى المتعلق بتنفيذ خط «إيست ميد»، فيتراجع المستثمرون أو يتم تأجيله، فى الوقت الذى تحاول فيه الإمساك بموطئ قدم، لمد خط أنابيب يتصل بأراضيها، وتراهن على أن المصالح الاقتصادية تفرض كلمتها، وأن معظم غاز المنطقة سيجد طريقه لأوروبا من خلاله، وعبر أراضيها.. ما يفرض التحسب لإحباط مسعى أردوغان لسحب البساط من تحت أقدام مصر.