بقلم - جمال طه
عندما صوت السودان لصالح تجميد عضوية سوريا بالجامعة العربية نوفمبر 2011، صاح المندوب السورى معاتباً: «حتى أنت! ألم يكن الأسد أشد المدافعين عن البشير ضد ملاحقة المحكمة الجنائية؟»، رد وزير الخارجية السودانى على استحياء «كل الدول صوتت ضدكم، بقت علينا؟!».. الخرطوم لم تقطع علاقتها بدمشق، لم توقف الطيران المباشر، ولم تفرض تأشيرات على السوريين، بل أضافت لتعليم أبنائهم مناهج التاريخ والجغرافيا الوطنية.. ترحاب الأسد بالبشير فى مطار دمشق 16 ديسمبر ليس باعتباره أول رئيس عربى تطأ قدماه سوريا منذ 2011، وإنما كان تقديراً لحاكم لم يرتكب خطايا الآخرين فى حقه، وإن جاملهم أحياناً.. عندما أكد البشير أن زيارته «مقاربة جديدة للوضع العربى»، لم يكن يدرى أنها تخفى وراءها مجموعة من أهم المتغيرات السياسية فى الإقليم.
تكفُل المخابرات الروسية بتأمين رحلة البشير ذهاباً وعودة، واستقلاله طائرة «توبوليف 154» تابعة لوزارة الدفاع الروسية، أكد أن الزيارة تتجاوز أهمية طرفيها، وتندرج ضمن الصراع الدولى والإقليمى المحتدم بالمنطقة.. المشكلة السورية تديرها موسكو منذ تدخلها العسكرى نهاية سبتمبر 2015، نجحت فى تمكين النظام من الانتصار العسكرى، لكنها عجزت عن تحويله إلى مكاسب سياسية، نتيجة لعزلته عن المحيط العربى، لذلك سعت لتعزيز وضعه السياسى، اعتماداً على مبادرة البشير، الذى استقبلته رغم مذكرة التوقيف الدولية الصادرة بحقه، فى نوفمبر 2017، ويوليو 2018، حيث أبدى استعداده لتأسيس تحالف استراتيجى ولو ارتكز على قاعدة عسكرية روسية على ساحل البحر الأحمر.. توجه يائس نتيجة لفقدان الثقة فى الدعم العربى، وانقطاع الأمل فى الدعم الأمريكى، ودخول الاقتصاد مرحلة حرجة، لكن الاستجابة اقتصرت على الإسراع بالإجراءات التحضيرية لمشروع روس آتوم لإنشاء محطة توليد كهرباء نووية، والتعجيل باتفاق «روس جيولوجيا» للتنقيب عن الغاز فى البحر الأحمر.. السودان ينشد الدعم الاقتصادى والنقدى، لكن رد الفعل الروسى لم يختلف كثيراً عن الأمريكى والعربى.. كل يسعى لمصالحه.
ترحيب إيران بالزيارة رغم مبادرة البشير بقطع العلاقات معها يناير 2016 مجاملة للسعودية، وخوض قواته البرية للحرب ضد وكلائها الحوثيين فى اليمن، يؤكد أن الترحيب يتجاوز موقفها السياسى، ليعكس موقف محور «موسكو، طهران، أنقرة»، كما أنها تعتبر الزيارة ثغرة فى جدار التحالف العربى الذى تترأسه السعودية فى اليمن، وتعزيزاً للنظام السورى الذى دعمت صموده.. تركيا الطرف الثالث فى المحور زارها البشير نهاية أكتوبر 2018، ليطمئنها إلى أن انفتاحه على مصر وسوريا لا يمس تحالفهما الاستراتيجى، فؤاد أقطاى، نائب الرئيس التركى، زار السودان 21 نوفمبر وتفقد جزيرة سواكن التى أصبح لبلاده حق الامتياز عليها.. ووزير الخارجية التركى حاول يوم وصول البشير دمشق تأكيد الاتساق مع موقف المحور الثلاثى بالإشارة إلى أن «بلاده قد تنظر فى إمكانية إعادة العلاقات مع إدارة الأسد حال فوزه فى الانتخابات».. تركيا تتفق مع إيران فى رؤيتها المتعلقة بانعكاسات الزيارة على التحالف العربى، خاصة أنها تدرك أن السعودية لن تغفر لها تشجيعها للنظام القطرى على مناطحة دورها القيادى داخل مجلس التعاون، وممارستها للابتزاز فى قضية خاشقجى.
الزيارة كانت لطمة روسية للسياسة الأمريكية فى المنطقة، وجهها البشير، الذى قطع علاقاته بإيران وكوريا والتحق بالتحالف العربى لتحسين ملفه لدى الإدارة الأمريكية، لكنها خدعته، برفع العقوبات الاقتصادية مطلع 2017، مع إبقائه على قائمة الدول الداعمة للإرهاب، فظلت آثار المقاطعة كما هى.. وما ضاعف من وقع اللطمة، تزامنها مع قرار ترامب الأرعن بسحب قواته من سوريا، الذى استقال على أثره وزير الدفاع متصدراً قائمة من 22 مسئولاً رفيعاً فى الإدارة، رفضوا الانصياع لقرارات لا تندرج ضمن أهداف ومصالح الأمن القومى لدولة عظمى.. قرار الانسحاب جاء على أثر رفض السعودية طلب ترامب دفع تكلفة وجود هذه القوات، وتم دون موافقة الخارجية أو الدفاع، تاركاً حلفاءه الأكراد فريسة لتركيا، التى رفضت كل البدائل التى طرحها لتأمينهم، وهددت بـ«مواجهة عسكرية!!» مع الدوريات العسكرية الأمريكية الكردية المشتركة، التى بدأ تسييرها شرق الفرات.. والمأساة أن ترامب عرض إنشاء المنطقة الآمنة التى كان يحلم بها أردوغان، بطول حدوده مع سوريا، وبعمق 30 كم، لكنه رفض، لأن نفوذه قد تجاوز ذلك، فاضطر ترامب للموافقة على بيع نظام باتريوت للدفاع الجوى والصاروخى «3.5 مليار دولار»، الذى سبق لواشنطن رفضه بسبب تمسك أنقرة بنقل قدر أكبر من التكنولوجيا.. كل المؤشرات تؤكد أن أردوغان نجح فى الحصول على تفويض للقيام بدور الوكيل للمصالح الأمريكية بالمنطقة، إضافة لدوره الرئيسى داخل المحور الروسى، هذا التغير الاستراتيجى بالغ الأهمية والخطورة، ولا بد من مراقبة تبعاته خلال المرحلة المقبلة.
البشير عاد للخرطوم ليجد رئيس الأركان السعودى فى انتظاره.. رغم أنه لم يصطحب معه وزير الدفاع ولا رئيس المخابرات، حتى نتصور أن المسئول السعودى يطمئن على نتيجة اتصال ذى طابع عسكرى أو أمنى، لو كان الزائر وزير الخارجية لقلنا إن البشير حمل رسالة مصالحة، لكن إيفاد رئيس الأركان يؤكد أن الزيارة أحدثت قلقاً لدى المملكة من احتمال انعكاس تداعياتها على موقف الخرطوم من حرب اليمن ودول الخليج بصفة عامة، خاصة فى ضوء ما تردد أخيراً بشأن اقتراح السودان الاستجابة للضغوط الدولية ووقف حرب اليمن، وتزايد الدعوات من أحزاب وبرلمانيين لسحب القوات السودانية، فضلاً عن قيامه بمنح تسهيلات لتركيا فى جزيرة سواكن، ما يفسر مبادرة السعودية بتأسيس مجلس لتعاون الدول العربية والأفريقية المشاطئة للبحر الأحمر ديسمبر 2018.. زيارة رئيس الأركان امتدت لثلاثة أيام، حضر خلالها مناورة «نصرة الحق 1»، ونال موافقة البشير على استمرار المشاركة العسكرية فى التحالف العربى.
أيام قليلة بعد عودته، فوجئ البشير بمظاهرات تنشر الفوضى الداخلية، الإخوان خذلوه، وخرجوا عليه، وقوات الدعم السريع نفضت يديها من النظام، قبل أن يبدأ الإضراب العام.. موجة مؤجلة للخريف العربى، بدأت ضمن تداعيات اللطمة التى شارك فيها.. قد يعقبها اجتياح تركى لشرق الفرات، وربما عدوان إسرائيلى.. لكن زيارات القادة ستتوالى على دمشق، وزيارة الأسد لعواصم خارجية واردة، فقد حرك البشير المياه الراكدة، وأحدث تغيرات هامة فى الإقليم.. فهل تمكنه حنكته السياسية من السيطرة على تداعياتها؟!.
نقلا عن الوطن
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع