بقلم - جمال طه
استهلاك تركيا من الغاز 50 مليار متر3/عام، قيمتها 45 مليار دولار، تحصل عليه من أذربيجان عبر خط «تاناب»، ومن روسيا عبر خط السيل التركى الذى ينتهى بنهاية 2019، الخطان يمران عبر البحر الأسود والأناضول ثم إلى أوروبا، تركيا ركيزة لأمن الطاقة للقارة العجوز.. منذ سقوط مشروع خط الأنابيب القطرى عبر سوريا، وما ظهر من اكتشافات غازية شرق المتوسط، بدلت تركيا توجهاتها؛ وضعت التنقيب عن مصادر الطاقة فى مقدمة اهتماماتها الاستراتيجية، وتخلت عن سياسة «صفر مشاكل»، وتحاول استعادة نفوذها العثمانى، ونهب ثروات المنطقة بالقوة.. الاحتلال العسكرى لا يرتب حقوقاً، لكنها تفرض الأمر الواقع بالقوة، وتعتبر منطقة الجرف القارى المواجهة لشمال قبرص التركية التى تحتلها منذ 1974، منطقة اقتصادية خالصة لها، رغم أنها تضم المربعات من 18 إلى 24 الخاضعة للسيادة القبرصية وفقاً لقواعد القانون الدولى.
تركيا صعدت تهديداتها، ووسعت نطاقها، بمنع الحفار سايبم التابع لشركة إينى الإيطالية من دخول المربع «2»، رغم وقوعه جنوب شرق قبرص بعيداً عن القطاع التركى.. صحيفة «ينى شفق» أكدت أن البحرية التركية أوقفت أعمال 7 سفن تنقيب أجنبية غرب قبرص، تركيا أعدت برنامجاً ضخماً للتنقيب فى أعالى البحار، لكن شركات النفط الدولية رفضت المشاركة، لأنها لم ترسِّم حدودها مع جيرانها، فلجأت أنقرة إلى تتريك قطاع النفط.. الخطة التركية تعتمد على امتلاك أسطول حفر قادر على الوصول إلى عمق 2600 متر، وتلك قدرات جيدة.. «فاتح» أول سفينة تنقيب صناعة محلية، تعمل ما بين البحرين المتوسط والأسود منذ أكتوبر 2018؛ ثم اشترت «ديبسى ميترو-1» وأخضعتها للصيانة والتحديث قبل دفعها لمحيط قبرص فى أبريل، «خير الدين بربروس» «أوروج رئيس» و«ياووز»، باكورة أسطول تنقيب بالمياه العميقة يضم 16 سفينة، وضع تركيا ضمن قائمة الدول العشر التى تمتلك سفنها الخاصة بالحفر والتنقيب.. الهدف المعلن الحصول على حصة من غاز المتوسط، لكنها فى الحقيقة تسعى لإيجاد موطئ قدم قريب من مثلث إنتاج غاز قبرص ومصر وإسرائيل، باكتشاف بئر -مهما كانت صغيرة- يبرر مد أنبوب يتصل بالساحل التركى، ولها تجربة فى مد الخط الذى يزود شمال قبرص بالمياه.. رهانها الرئيسى أن منطق المصلحة سيفرض وجوده كأمر واقع يجتذب غاز المنطقة للتصدير لأوروبا عبر تركيا، وبذلك تقضى على طموحات مصر، وتحبط مخططات إسرائيل.
عمليات التنقيب الأولى تمت بالمنطقة الاقتصادية الخاصة جنوب تركيا، وبناء على نتائجها بدأ حفر بئر «آلانيا-1» قرب مرسين، وتستعد لحفر الثانية، تركيا تتجنب التنقيب فى بحر إيجة بسبب الصراع مع اليونان على الجرف القارى.. لكنها تسعى لخلخلة الوضع الراهن شرق المتوسط، ومنع تثبيت حقوق دوله فى الكشوفات الغازية، قبرص هى الوسيلة، لكن مصر هى الهدف، لأنها تخشى أن يكون استهداف إسرائيل بداية لمعركة مع الغرب.. نهاية يناير حولت وجهة حفار من البحر الأسود، لمحيط قبرص، ونقلت «فاتح» إلى جنوبها فى مارس.. وزير الخارجية حذر «لن نسمح بإنجاز أى شىء فى المتوسط دون تركيا»، وأردوغان أكد «لن نوقف التنقيب رغم رفض قبرص، ونواب حزب الشعب الجمهورى المعارض»، وحذر «إكسون موبيل» من التنقيب فى «المربع 10»، مدعياً أن «شركة النفط الوطنية التركية»، حصلت على ترخيص للتنقيب فيه من جمهورية قبرص التركية، التى لا تعترف بها سوى أنقرة!!.. متجاهلاً أن أمريكا وإيطاليا وفرنسا قرروا حماية مناطق عمليات الغاز التابعة لشركاتهم «إكسون موبيل، نوبل إنرجى، إينى، توتال»، فضلاً عن قرب هذه المربعات من مناطق الترسيم بين مصر وقبرص، وابتعاده كيلومترات قليلة عن حقل ظهر.. دخول هذه المنطقة يعنى الحرب، ما يفسر تنفيذ البحرية التركية لأكبر مناورات فى تاريخها.
تركيا بدأت استعراض القوة بمناورات مشتركة مع سبع دول «الشتاء 2019» من «4/22 فبراير»، وشاركت فى مناورات حلف الناتو «DYNAMIC MANTA-2019»، للتدريب على مواجهة الغواصات قرب صقلية، ومناورات «الوطن الأزرق» «27 فبراير/8 مارس»، بمشاركة سبع دول وثمانية مراقبين، واعتباراً من 6 مارس مناورات «مأوى وطن 2019»، بمنطقة غرب قبرص قرب المنطقة المستهدفة.. المناورات يمتد مسرح عملياتها فى 3 بحار «إيجة، الأسود، والمتوسط»، بمشاركة 103 قطع بحرية.. تركيا استهدفت تأكيد أن حملات التطهير عقب محاولة انقلاب 2016، لم تؤثر على قدرة القوات البحرية، وأنها قادرة على خوض غمار حرب بحرية شاملة، ما يكتسب دلالات هامة على ضوء تعدد أطراف التكتل الذى أضحت تواجهه حالياً، والممتد جغرافياً، على سواحل البحار الثلاثة.
مواجهة تركيا تفرض التحرك على عدة محاور، أهمها القانونى، لأن هناك قيداً زمنياً فرضته اتفاقية لوزان، يحرمها من استخراج وتصنيع النفط حتى عام 2023، ما يفسر أن كافة تصريحاتها تتعلق بعمليات تنقيب وليس استخراجاً.. التحرك على هذا المحور بالغ الأهمية، لتعلقه باختراق تسويات استراتيجية دولية.. ثم إن عدم انضمام تركيا لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار 1982، لا يعفيها من أحكامها، لأنها دولة ساحلية تطل على بحار دولية، خاصة فيما يتعلق بإلزامية تعيين العلامات البحرية المحددة لبحرها الإقليمى، والمنطقة الاقتصادية الخالصة، وتعيين الحدود البحرية مع الدول المجاورة والمقابلة لها، ثم إيداعها مشفوعة بالخرائط لدى الأمم المتحدة، قبل الشروع فى عمليات التنقيب، وهى لم تقم بأى من تلك الالتزامات الدولية، ما يجعل تصرفاتها نوعاً من البلطجة.. أولى مهام «منتدى غاز المتوسط» ينبغى أن تنصب على تشكيل فريق عمل قانونى لإدارة تلك المعركة.
معاداة تركيا لمصر ودول المنطقة، لا تنفصل عن موقف حليفتها قطر، التى شاركت فى مناوراتها الأخيرة، بسبب تضررها من أن تصدير «المنتدى» للغاز سيكون خصماً من حصتها بالسوق الأوروبية، سيناء وشمال أفريقيا والسودان ستكون الهدف، ودعم الإرهاب الأداة، والتحسب لاستهداف خطوط الغاز الموجهة للأردن وإسرائيل، وكذا حقول الغاز يوفر الدماء، احتواء «المنتدى» لكل الترتيبات المتعلقة بتأمين الحقول هدف المرحلة.. تركيا خرجت صفر اليدين من معركة الغاز، اليونان خصمها اللدود حققت مكسباً جديداً، بعد الكشوفات القبرصية، واتفاقات دول «المنتدى»، وذلك بمرور «إيست ميد» بأراضيها، ليصبح الثانى بعد «تاب» لضخ الغاز لأوروبا.. يأس تركيا يدفعها لحماقة الاندفاع.. وطبول الحرب تقرع عن بعد.
نقلا عن الوطن
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع