بقلم - جمال طه
وزير الخارجية الأمريكى مايك بومبيو بدأ جولته فى الشرق الأوسط بالعراق 9 يناير الحالى، زيارة لم تكن مقررة ضمن جولته بدول مجلس التعاون الخليجى ومصر والأردن، ولكن تمت إضافتها لاحتواء الآثار السلبية لزيارة ترامب المفاجئة للقوات الأمريكية بالعراق 26 ديسمبر الماضى، ومغادرته دون لقاء أى مسئول عراقى!!.. تصرف مهين، ماس بالسيادة، حاول بومبيو احتواءه بلقاءات مع رئيسى الجمهورية والحكومة، ووزير الخارجية، ورئيس البرلمان بحضور لجنة العلاقات الخارجية، مردداً أحاديث مكرورة عن المخاطر الإيرانية على أمن المنطقة، وتفعيل إجراءات المقاطعة، وهو يدرك أن ذلك يخلو من مضمون فى دولة تربطها بطهران علاقات خاصة، وتعتمد على إمداداتها من الكهرباء والمياه.
كل الشواهد تؤكد أن زيارة ترامب لقاعدة «عين الأسد» الجوية غرب بغداد تمت بهدف تخفيف الضغوط التى يتعرض لها جراء قرار انسحابه من سوريا، ومحاولة رأب الصدع فى علاقته بالقادة العسكريين، بعدما أكدت التقارير استياءهم لاستقالة ماتيز وزير الدفاع، والتأكيد بأن قراره بالانسحاب يستند إلى وجود قواعد عسكرية بديلة فى العراق، لا ينوى الانسحاب منها، وهى تسمح بشن عمليات فى سوريا، دون حاجة للوجود فيها.. لكن ذلك فتح باب الجدل واسعاً بشأن الزيارة والوجود العسكرى الأمريكى.
المادة «14» من الاتفاقية الأمنية بين العراق وأمريكا 2008، تنظم دخول ومغادرة الأمريكيين، عسكريين ومدنيين للعراق، وذلك بمقتضى بطاقات الهوية وأوامر السفر، عبر المنافذ الرسمية للمغادرة والوصول، التى تديرها السلطات العراقية، ما يعنى مخالفة الهبوط المباشر بالقواعد للاتفاق، ولسيادة الدولة، ولكافة الأعراف السياسية والدبلوماسية.. الأنكى من ذلك، أن إشارة ترامب إلى شن عمليات بسوريا من القواعد العراقية يشكل مخالفة صريحة للمادة «27» التى تحظر استخدام أراضى ومياه وأجواء العراق ممراً أو منطلقاً لهجمات ضد بلدان أخرى، لما يمثله ذلك من تعريض أمنه وسيادته للخطر.. ثم إن الاتفاقية تنص على تدريب القوات الأمنية وتجهيزها بالسلاح، ولم تتضمن نشراً لقوات قتال أمريكية.. رغم ذلك فالوجود الرسمى لأمريكا يتجاوز 5000 عسكرى، وقرابة 8000 مدنى، يقدمون الدعم اللوجيستى وخدمات البناء والصيانة والنقل والاتصالات والتدريب والإدارة والترجمة وأعمال التأمين والحراسات، يتم تجنيدهم من الأمريكيين وبعض دول العالم الثالث ومحليين من العراق، بمعرفة شركات متخصصة «بلاك ووترز، كى بى آر، دين كورب، فلور»، يختارها البنتاجون وأجهزة المخابرات.. هذه القوات تنتشر فى قواعد بامتداد العراق.. أكبرها قاعدة «بلد» بمحافظة صلاح الدين بالوسط، قاعدتان بمحافظة الأنبار بالغرب؛ «عين الأسد»، و«الحبانية»، وقاعدة جديدة بوادى «القذف» قرب منفذ الوليد على الحدود تقرر إنشاؤها لتكون قريبة من سوريا، وتحل محل قاعدة «التنف»، ومركز تدريب بقاعدة «التاجى» شمال بغداد، وقاعدة النصر «فكتورى» للقيادة والسيطرة ضمن حدود مطار بغداد الدولى، قاعدة «كى وان» فى كركوك، وقاعدة «الجيارة» جنوب الموصل، بالإضافة إلى خمس قواعد فى الشمال بمقتضى الاتفاق الموقع مع حكومة إقليم كردستان 2014.. إهدار الزيارة للالتزامات التعاقدية، وامتهانها لحقوق السيادة، فجر ردود فعل عديدة.
رئيس الوزراء السابق حيدر العبادى اتهم نورى المالكى نائب رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة الأسبق، باستقدام القوات الأمريكية يونيو 2014 عقب الاكتساح الداعشى لشمال وغرب البلاد، والمالكى اتهم العبادى بمنحها قواعد ثابتة، وإعطائها صلاحيات التحرك دون الرجوع للسلطات، بالمخالفة للاتفاقية الأمنية.. لجنة الأمن والدفاع بالبرلمان كشفت عن دخول بعض القوات والمعدات الأمريكية مقبلة من سوريا، إلى قواعد فى الأنبار ونينوى وأربيل.. «تحالف البناء» أكبر التكتلات البرلمانية وصف ذلك بالأمر الخطير الذى لا يمكن السكوت عنه، وكشف نيته إعداد مشروع قانون لإخراج كل القوات الأجنبية من البلاد وإنهاء الاتفاقية الأمنية.. «كتلة صادقون» التابعة لميليشيات «الحشد الشعبى» الشيعية، دعت للإسراع بتشريع القانون، خاصة أن البرلمان السابق تبنى فى مارس الماضى قراراً يطالب الحكومة بوضع جدول زمنى لمغادرة القوات الأجنبية العراق، لانتهاء الحرب ضد «داعش»، ولم يتم تنفيذه.. هادى العامرى قائد «الحشد» طالب الحكومة بطرد القوات الأجنبية والأمريكية حتى لو كانت للتدريب.. ميليشيات «عصائب أهل الحق» هددت باستهداف الجنود الأمريكيين، إذا ما عجزت الحكومة والبرلمان عن مواجهتهم بالطرق الدبلوماسية والسياسية.. و«حزب الله» العراقى هدد بأنه «لن يُسمح بوجود جندى أمريكى واحد على أرض العراق».. عادل عبدالمهدى رئيس الوزراء دافع بأن «أمريكا لا تمتلك قواعد أحادية بالعراق، بل توجد فى تسع قواعد ومعسكرات مشتركة مع القوات العراقية».. تبرير لا يعكس الحقيقة، بقدر ما يؤكد أن الحكومة العراقية تسعى لغلق الملف، لأنها لا تملك حرية المطالبة بإلغاء الاتفاق، فديونها لواشنطن التى تربو على 140 مليار دولار تغل يدها.
الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تتعامل مع العراق باعتباره الممر الاستراتيجى الذى قد يمكنها من إحكام السيطرة على مفاتيح المنطقة برمتها، بعد أن اضطرت للانسحاب من سوريا، وأدركت استحالة إجراء تغيير فى النظام الإيرانى؛ وجودها فى قطاعه الشمالى يحرم إيران من استكمال الهلال البرى الشيعى، الذى يصل طهران ببيروت عبر بغداد ودمشق، وقطاعه الجنوبى يحتوى نحو نصف احتياطى نفط العراق، ويعتبر المنفذ الاستراتيجى إلى الخليج، ورغم ذلك فإن تعاملها معه يعكس دائماً قصوراً فى الرؤية؛ أسقطت صدام حسين نتيجة تخوفات، كانت أجهزة مخابراتها تثق فى عدم صحتها، ففتحت الباب على مصراعيه لتدخل إيرانى غير محدود فى شئونه الداخلية، وتستمر فى قصور الرؤية، بتأكيد ترامب أن الاحتفاظ بالوجود الأمريكى فى العراق يستهدف مراقبة إيران، متجاهلاً حقيقة الوجود الإيرانى داخل العراق، وتدخلها فى أدق شئونه السيادية، وآخرها نجاح قاسم سليمانى قائد فيلق القدس فى صياغة تكتل «البناء» الأكبر فى البرلمان العراقى، الذى عين رئيس الجمهورية، واختير رئيس البرلمان من بين أعضائه.. وموقع «ديبكا» الإسرائيلى المعنى بشئون الأمن والمخابرات أكد وجود مباحثات سرية بين أمريكا وإيران لتسوية الخلافات بينهما، منذ يونيو الماضى بوساطة عُمانية.
وجه الخطورة فيما يجرى على الساحة العراقية، إدراك أمريكا أنها لن تتمكن من الاحتفاظ بوجودها الدائم فيه دون وجود نظام فيدرالى، يسمح لحكومات الأقاليم باستقبال قواعدها دون ممانعة الحكومة المركزية.. ولكن فى ظل المشاكل الطائفية المحتدمة بالعراق، بين الشيعة والسنة والأكراد، هل هناك ما يضمن أن أى عبث فى تركيبة نظام الحكم الراهن لا يؤدى إلى تفكك الدولة العراقية؟!.
نقلا عن الوطن
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع