بقلم - جمال طه
عندما كان مقال الجمعة الماضى «الكشف القبرصى.. وارتباك معادلات الغاز» يمثل للطباعة، كان «نتنياهو» يختتم مباحثاته مع رئيس وزراء اليونان «تسيبراس» ورئيس قبرص «أناستاسياديس»، و«بومبيو» وزير خارجية أمريكا، بإعلان تعاون إقليمى، يتضمن مد خط أنابيب غاز «إيست ميد» من إسرائيل إلى أوروبا عبر قبرص واليونان، وتطوير التعاون العسكرى ليشمل التأمين ضد حرائق آبار الغاز، وإنشاء جهاز مراقبة مشترك لحمايتها، تشارك فيه الهندسة البحرية الإسرائيلية بمحطة رادار متطورة بعيدة المدى فى جزيرة كريت، لمواجهة أى تهديدات، خاصة من جانب إيران وحزب الله.
فى سلسلة مقالات «حرب الغاز»، تناولنا كل جوانب الموضوع، واستعرضنا كافة التطورات والمعلومات.. لكن الكشف القبرصى كما أوضحنا بالمقال السابق أربك الحسابات، وزعزع المحاور، وأثار تساؤلات القراء.. لذلك فضّلنا تنحية المعلومات جانباً، والاكتفاء بدلالاتها، بهدف رسم صورة حقيقية للموقف الراهن، وتأثيراته المستقبلية، وانعكاساته على استراتيجية مصر الغازية.
هناك أربع حقائق رئيسية تتعلق بالأطراف المشاركة فى معادلة الغاز بالمنطقة.. أولاً: مشروع خط «إيست ميد» الإسرائيلى الذى يربط حقول شرق المتوسط بأوروبا عبر قبرص واليونان يمضى فى طريقه كإحدى الحقائق المؤكدة بالمنطقة.. ضرورات سياسية تفرض تخفيف الاعتماد الأوروبى على الغاز الروسى، مشاركة أوروبية، ضمانات أمريكية، توافر حد أدنى من التفاهم والتعاون يسمح بتجاوز الخلافات بين الشركاء.. ثانياً: مشروع خط الغاز من قبرص إلى معامل الإسالة فى مصر تم التصديق على الاتفاق الخاص به وبدأت إجراءات التنفيذ.. ثالثاً: المقترح المصرى بشأن مد خط على نفس المسار إلى أوروبا، أغلق ملفه، بعد أن رفع الاتحاد الأوروبى رعايته عنه، وانحاز لـ«إيست ميد»، لأنه يعكس مصالح شركات إسرائيلية يونانية قبرصية.. رابعاً: مشروع إنشاء معمل إسالة فى قبرص، اقترحته شركة «إكسون موبيل»، إمبراطورية روكفلر التى يديرها تيلرسون وزير الخارجية السابق، مشروع سياسى بامتياز، يحمل شُبهة محاولة إرباك حسابات مصر وطموحاتها كمركز إقليمى للغاز.. تلك هى مشاريع أطراف معادلة الغاز، أما المشاريع والتحركات المضادة فسوف نتناولها لاحقاً.
كل التحليلات والتغطيات المتعلقة بالمشاريع الرئيسية بالمنطقة «مصرية، إسرائيلية، قبرصية»، تتعمد إظهارها كمشروعات متنافسة متعارضة، بهدف إثارة البلبلة والحد من التعاون، والتهديد بالوقيعة، وذلك استناداً لعدم تعمق القارئ فى المعادلات الرقمية، مع أن الحقائق تؤكد أن العلاقات الاقتصادية بين دول المنطقة لا تحتمل المنافسة، لأن الفرص متعددة وتتسع لتحقيق مكاسب للجميع، هذه الحقائق تتضح بتبسيط الأرقام.. مخزون الغاز الإسرائيلى 800 مليار متر3، القبرصى 600 مليار، والمصرى يتجاوز ضعفهما.. أقصى إنتاج مستقبلى للحقول الحالية؛ ظهر 3.2 مليار قدم3/يوم، خمسة حقول بإسرائيل وقبرص كل منها سينتج 2.5 مليار، يصبح الإجمالى 15.7 مليار قدم3/يوم، أى قرابة 160 مليار متر3/عام، مصر تستهلك منها «42%»، وإسرائيل «7%»، استهلاك قبرص وتعاقدات الأردن لا تتجاوز «6%»، ما يعنى أن فائض الإنتاج المخصص للتصدير «45%».. «6.25%» منها سيتم تصديره من خلال خط «إيست ميد»، لأن طاقته الاستيعابية 10 مليارات متر3.. «13.4%» ستتم إسالته بمعملى دمياط ورشيد، اللذين تبلغ طاقتهما القصوى 21.5 مليار متر3/عام، أى إن المنطقة لا تستطيع تصدير سوى «25%» فقط من طاقتها الإنتاجية، بدون حساب إنتاج الكشوف المصرية والقبرصية الجديدة.. ليتبقى «20%» مطلوب اتخاذ قرار بما إذا كان سيتم تصديرها فى الحالة السائلة أو الغازية، وكذا تحديد وسيلة النقل المناسبة.. البديل الأول يعتمد على توسيع طاقة معامل التسييل، وتنفيذ المشروع القبرصى، والثانى يفرض مضاعفة طاقة «إيست ميد».. فما هو البديل الأنسب؟!.
هناك اعتبارات ينبغى مراعاتها إبان التخطيط للمشاريع المستقبلية بالمنطقة؛ الأول: أن أوروبا تفضل الغاز بحالته الطبيعية، لأن المسال سعره أعلى، ويفرض معالجات إضافية مكلفة لإرجاعه للحالة الغازية قبل الاستخدام، وهذا يضعف قدرة الغاز المسال على المنافسة.. الثانى: أن الكشوفات الجديدة الواعدة بمصر وقبرص، ستؤدى لزيادة المعروض، وتخفيض السعر، وهو ما ينبغى مراعاته عند حساب التكلفة الاستثمارية.. الثالث: قرب دخول لبنان كمنتج للغاز بعد اعتماده خطة التنقيب التى قدمها كونسورتيوم «توتال الفرنسية، إينى الإيطالية، ونوفاتك الروسية»، فى امتيازى التنقيب الرابع والتاسع بمحازاة الحدود مع إسرائيل.. الرابع: بدء تشييد روسيا لمحطتين لمعالجة الغاز، بعد احتكار شركاتها النفطية عقود التنقيب على شواطئ طرطوس وبانياس، وريف حمص، التى تبلغ احتياطاتها 700 مليار متر3، ما يعنى قرب عمليات التنقيب.. الخامس: أن الدور الروسى فى توجيه استراتيجيات الدولة السورية وشراكته فى الكونسورتيوم اللبنانى قد يفرض تصدير إنتاجهما فى حالته الغازية عبر شبكات التوزيع التركية القريبة منهما، ليكتسح المنافسات بالسوق الأوروبية.. إذن الاختيار هنا مفروض ولا بديل له؛ وهو تجنب ضخ أى استثمارات جديدة للتوسع فى محطات الإسالة، وإعطاء أولوية لدفع مشروع خط «إيست ميد» والمشاركة فيه، وزيادة طاقته، ليصدر إنتاج الحقول المصرية فى حالته الغازية.
عملية التنسيق لتحويل التنافسات بين دول المنطقة إلى مشاريع تعاون، تدعم السلام وتحقق الرخاء لشعوبها، هى مهمة «منتدى الغاز لدول شرق المتوسط» بالقاهرة.. تركيا تستشعر خطورته كتكتل معادٍ، يهدف لهزيمتها فى معركة الطاقة.. منذ سنوات قليلة كانت تحتكر مرور الغاز إلى أوروبا، لكن الكفة انتقلت للضفة المقابلة، لتضع مصر قواعد جديدة للحركة.. تركيا تحاول فرض حساباتها، بالاستناد إلى خلافات طويلة مع قبرص، لتوجد لنفسها موطئ قدم فى منجم الثروات، وتدخل فى منافسة تتوافر لها فيها فرص جيدة.. حرب الغاز معركة طويلة وضارية، تستلزم الاستعداد الجيد، ما يفسر تزامن إعلان «المنتدى» مع تصعيد تركيا واستعراضها للقوة.. بدأ باستعدادها لاجتياح شرق الفرات، لكن التدخلات الأمريكية والروسية أحبطتها.. نظمت مناورات استراتيجية فى البحار الثلاثة «المتوسط الأسود، إيجة»، حدث غير مسبوق فى ضخامته، تحرش بدول «المنتدى»، بعد انحياز أوروبا وأمريكا لموقف اليونان وقبرص من الأزمة، وتأكيداً لقدرتها على مواجهة أى محاولة لعرقلة إجراءاتها العدائية، وتجاوزاتها على حقوق السيادة لدول المنطقة.. تركيا تراهن على أن الدول السبع أعضاء «المنتدى» متضامنة نظرياً فى مواجهة التجاوزات الخاصة بمصالحها المتعلقة بمصادر الطاقة، ولكن عندما يتعلق الأمر بالحرب، فله اعتبارات أخرى، وهنا تكمن الخطورة.. آمل ألا نعض نواجزنا ندماً «إنما أُكلت، يوم أُكل الثور الأبيض».. ذلك موضوع المقال التالى.
نقلا عن الوطن
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع