بقلم - جمال طه
إسرائيل ظلت مترددة لسنوات، بين تغذية إرهاب سيناء لإشغال مصر، وبين رفع يدها عنه، لأنه يستهدفها بنفس القدر.. لكنها سلمت أخيراً بأن العداء مع مصر لن يكفل نجاح مشاريع التعاون فى مجال الطاقة، ما يفسر تفهمها لتدفق الجحافل العسكرية على شبه الجزيرة فى العملية «سيناء 2018».. استراتيجية إسرائيل فى مجال الغاز تعتمد على التعاون الإقليمى، خط أنابيب الغاز إلى الأردن، يستهدف تنفيذ صفقة 2016، الخاصة بتصدير 300 مليون قدم3 على مدى 15 عاماً بـ10 مليارات دولار، تمثل 25% من احتياجاته، عملية الضخ تبدأ 2019.. لكن تعاونها مع مصر هو البديل حال تعثر تنفيذ اتفاقات «إيست ميد».
قبرص واليونان ينبغى أن يتم التعامل معهما باعتبارهما كياناً واحداً، استراتيجيته السياسية تتنازعها قوة التحالف العسكرى مع مصر، تحسباً للمواجهة مع تركيا، ومصالحه الاقتصادية مع إسرائيل.. شركة «إنرجين» اليونانية تمتلك حقلى غاز «كاريش وتنين» الإسرائيليين، منذ أغسطس 2016، عندما ابتاعتهما من شركتى «ديليك ونوبل إنرجى» مقابل 150 مليون دولار، ضمن محاولة إسرائيلية ناجحة لكسب موقف أثينا.. «إيست ميد» مشروع مشترك بين مجموعتين؛ «ديبا» اليونانية للغاز، و«إديسون» الإيطالية للطاقة.. وشركة «اى جى أى بوسيدون» اليونانية هى التى تتولى تطوير المشروع والترويج له.. اليونان تمتلك محطتى إسالة فى ريفيثوسا والكساندروبولى، وبالتالى فهى المنافس الوحيد لمصر فى المنطقة، لأنها قادرة على تسييل الغاز وتصديره، بمجرد وصوله لأراضيها، حتى قبل اكتمال الخط لإيطاليا.. ثم إنها تنتمى للاتحاد الأوروبى، الذى يتعامل مع «إيست ميد» بازدواجية أقرب لإسرائيل.. معركة الغاز «معركة مصالح بامتياز»، واليونان تنحاز لمصالحها.
إيطاليا طرف رئيسى فى المشروع، فهى نقطة العبور لأوروبا، شركتها الوطنية «إينى» مستثمر رئيسى فى عمليات الاستكشاف والإنتاج، حيث تتجاوز استثماراتها بمصر وقبرص 90 مليار دولار، بخلاف شراكتها مع «توتال» الفرنسية و«نوفاتك» الروسية فى عمليات الكشف على السواحل اللبنانية، حدة التنافس بين دول المنطقة أوقعتها مؤخراً فى إشكاليات متعددة، أبرزها تصاعد التهديدات المتبادلة بين إسرائيل ولبنان بشأن عمليات التنقيب فى المنطقة المتنازع عليها، وما حدث من تحرشات تركية بالحفار «سايبم»، ومنعه بالقوة من العمل جنوب قبرص، إلى الحد الذى اضطرت معه إلى تأمين عمله بفرقاطة حربية.. حتى إعادة تحريك مشكلة ريجينى ليست بعيدة عن تنافس المصالح الاقتصادية والغازية بالمنطقة.. المصالح الإيطالية تنبع من كونها منتجاً رئيسياً للغاز، يحصل على حصته الضخمة بموجب التعاقدات، وهو قادر على تأمين عمليات الإنتاج عسكرياً، شريطة ألا يجد نفسه متورطاً فى حرب بين دول الإقليم.
تركيا أوشكت على الاتفاق مع إسرائيل، على مرور خط الغاز لأوروبا عبر أراضيها، بما يحمله ذلك من جدوى اقتصادية، تفوق نظيرتها عبر قبرص واليونان وإيطاليا، لولا تكرار المشاكل الثنائية، بصورة أكدت استحالة الارتباط الاستراتيجى بينهما.. السياسة التركية تستهدف رفع تقييم المخاطر المحيطة بتنفيذ «إيست ميد»، إلى الحد الذى يجبر المستثمرين على التراجع عنه، أو تأجيله، والدخول فى مرحلة من التفاهمات، قد تتمكن خلالها من إعادته لمساره الأول عبر أراضيها، والحفاظ على وضعها كمركز دولى لشبكات التغذية بالغاز لأوروبا، ما يفسر إصرارها على إنكار مشروعية كل اتفاقات ترسيم الحدود البحرية بالمنطقة، والادعاء بأن مسار خط الأنابيب يخترق منطقة الجرف القارى الذى تدعى أحقيتها فيه.. اعتزام اليونان توسيع مياهها الإقليمية من 6 أميال بحرية إلى 12 ميلاً، يحول بحر إيجة إلى بحر يونانى مغلق، ما يفسر سرعة الرد التركى ببدء عمليات التنقيب جنوب غرب قبرص فى نوفمبر 2018، وإعلان البحرية التركية اعتزامها إقامة قاعدة بحرية دائمة شمال قبرص المحتل، وهو تطور جيوسياسى بالغ الأهمية من حيث انعكاساته على توازنات القوى بالمنطقة.. الشهور القليلة المقبلة حُبلى باستفزازات تستهدف إشعال لهيب الحرب، لأن أى اشتباك يمثل نجاحاً لاستراتيجية تركيا فى رفع الغطاء التأمينى عن مشروع الخط، وعرقلة تنفيذه.
روسيا التى ظل حكامها من القياصرة يحلمون بالوصول لمياه البحر المتوسط الدافئة، أضحت واحداً من أكبر المستثمرين فى مشروعات الغاز بالمنطقة، دخلت سوريا لتوقف المشروع القطرى الخاص بمد خط غاز لأوروبا، منافساً للغاز الروسى، ولتضع يدها على الاحتياطى الضخم، الذى سيجعل سوريا ثالث بلد مصدر للغاز فى العالم.. روسيا تلبى ثلث احتياجات أوروبا من الغاز، عبر خط «نورد ستريم 1» الذى يصل إلى ألمانيا، وخطى أنابيب يصلان إلى بولندا عبر بيلاروسيا، وعمليات تسليم مباشرة لفنلندا ودول البلطيق.. خط «السيل التركى» لجنوب شرق أوروبا واليونان وإيطاليا ينتهى يناير 2020، وتنتظر انتهاء الحرب السورية لتدشين خط تصدير الغاز الإيرانى عبر العراق وسوريا إلى ساحل المتوسط.. مسارات متعددة تستهدف حصار السوق الأوروبى، أكبر مستهلك للغاز فى العالم.. موسكو تدرك أن غاز شرق المتوسط سيكون البديل السياسى لاستغناء أوروبا عن الغاز الروسى، لذلك دخلت شريكة بـ30% فى حقل ظهر، وكمستثمر فى خط نقل غاز حقل «أفروديت» القبرصى لمصر، حتى تفرض نفسها كشريك حتى فى البدائل المحتملة، لكن مصالحها ترتبط استراتيجياً مع تركيا، وستنحاز لأى إجراء يعرقل تنفيذ «إيست ميد».. وهى من جانبها تتعمد إغراق الأسواق بالغاز، على النحو الذى هوى بأسعاره بأكثر من 80% خلال العشر سنوات الأخيرة، فى محاولة للتأثير على الجدوى الاقتصادية للمشروعات البديلة، وهو اتجاه مرشح للمزيد، بفعل تدفق إمدادات الغاز الصخرى الأمريكى، وتزايد شحنات الغاز المسال، ومد خط غاز «نيجيريا/المغرب» عبر سواحل الغرب الأفريقى وصولاً لأوروبا.. إدارة روسيا لملف الغاز نموذج للحنكة السياسية.
رغم الاتفاق على تمويل «إيست ميد» بمعرفة القطاع الخاص، فإنه لن يرى النور دون مشاركة الصناديق السيادية للاتحاد الأوروبى، الذى يتبناه ليتخلص من الاعتماد على روسيا، ما يبرر تحركه فى مسارات موازية مع إسرائيل ومصر، وهو يفضل بالطبع أن يكون البديل «غربى لا عربى».. مصر قادرة على تصدير الغاز عبر خط الأردن، وبالناقلات العملاقة للشرق الأقصى وأوروبا، لكن نجاحها فى فرض نفسها كشريك فى اتفاق 29 نوفمبر، يعبر عن دور سياسى بالمنطقة ينبغى أن تحرص عليه.. هل وصلت الرسالة؟!.
أنهيت ثانية تلك السلسلة، التى آمل ألا يعاد فتحها، بفعل حرب يقترب قرع طبولها.
نقلا عن الوطن
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع