بقلم - جمال طه
تطلّع مصر لتصبح المركز الدولى للغاز ليس بالأمر السهل، فهو يواجه تحديات عديدة: تبدأ بغرامات مُعَجِّزة، فرضتها قضايا تحكيم دولى، واجبة السداد.. وتمر على تعاون ضرورى مع شركاء الإقليم، مهما كان رصيد المرارة التاريخية المتبادلة، وإلا فالبديل تقليص الطموحات، وربما العزلة.. وتنتهى بحتمية التفهم الناضج لتقاطعات المصالح الإقليمية والدولية، وتقدير مآلات الصراع حول الغاز، والسعى الرصين لتحقيق التوافق، قدر المستطاع.. ثلاثة محاور واجبة، لا يجوز التقصير فى أىٍ منها.
توقف مصر عن تزويد إسرائيل بالغاز 2012، أدى لصدور أحكام تعويض ضد الهيئة العامة للبترول وشركة «إيجاس» بـ1.73 مليار دولار لصالح شركة الكهرباء الإسرائيلية، و1.03 مليار لرجل الأعمال يوسى ميمان ومساهمين آخرين بشركة غاز شرق المتوسط، و2.13 مليار تتعلق بمصنع الإسالة بدمياط، الذى تمتلك أغلبية أسهمه شركة «يونيون فينوسا الإسبانية الإيطالية».. عندما سمحت مصر لشركات القطاع الخاص باستيراد الغاز، لتتخفف من أعباء الدعم، اشترطت تسوية قضايا التعويض أولاً، شركتا «ديليك دريلينج» و«نوبل إنرجى» الشريكتان فى حقلى تمار ولفياثان الإسرائيليين، وقعتا اتفاقات تصدير 64 مليار قدم3 لشركة «دولفينوس» المصرية، خلال عشر سنوات، بـ15 مليار دولار، وحتى يتم استيفاء شرط تسوية التعويضات، قامتا بتكوين شركة جديدة مع شركة غاز الشرق المصرية «50% للشرق، 25% ديليك، 25% نوبل»، للاستحواذ على حصص المساهمين أصحاب دعاوى التحكيم ضد مصر.. وبعد 18 شهراً من المفاوضات، استحوذت الشركة الجديدة على 39% من أسهم شركة غاز شرق المتوسط المالكة لخط الأنابيب الواصل بين عسقلان والعريش، مقابل 518 مليون دولار، شركة غاز الشرق دفعت منها 148 مليون دولار، إضافة لاستحواذها على 9% أخرى من الأسهم فى صفقة منفصلة.. المفاوضات مع الملاك الجدد «الشرق، ديليك، نوبل» تتجه لتخفيض التعويض إلى ربع قيمته، على أن يتم استهلاكه على امتداد عمر الاتفاقية، وجارٍ التفاوض بشأن قضية مصنع الإسالة، لتخفيض الغرامات وتسديدها بمقابل غازى.. صفقة الغاز، وتكوين الشركة الجديدة، والاستحواذ على حصص المتقاضين، أعدم معظم الغرامات، قبل وصول أول شحنة لمصر 2019، ليتم تسييلها، وإعادة تصديرها لأوروبا بقيمة مضافة عالية، لذلك لا موضع للتشكيك فى مبررات الصفقة.
***
مصر وقعت مع قبرص اتفاقاً بشأن الاستكشاف المشترك لمناطق الحدود البحرية 2012، وبظهور بشائر تلك الجهود، بدأ البحث ينصب على كيفية التعاون فى نقل الغاز لأوروبا، وزيرا البترول المصرى والطاقة القبرصى وقعا فى نيقوسيا «19 سبتمبر 2018» اتفاقية إنشاء خط أنابيب تحت الماء، بطول 200 كم، بتكلفة مليار دولار، لنقل الغاز الطبيعى من حقل أفروديت «4.5 تريليون قدم3» إلى محطات تسييل الغاز فى مصر، بهدف إعادة تصديره لأوروبا، مما يفسر حضور شارلوت بورنوفيل، ممثل الاتحاد الأوروبى، حفل التوقيع.. وجارٍ تشكيل لجنة مشتركة للإشراف على التنفيذ.
خط أنابيب الغاز قبرص - مصر جزء من الخطة الاستراتيجية التى تنفذها القاهرة، والتى تتضمن العديد من البدائل وطرق التصدير، حتى تتبوأ موقعها كمركز دولى للغاز بشرق المتوسط، أهمها توقيعها لاتفاق مبدئى مع قبرص واليونان وإيطاليا برعاية الاتحاد الأوروبى فبراير 2018، لإنشاء خط أنابيب يربط حقول غاز شرق المتوسط بإيطاليا عبر قبرص واليونان.. وكان من المقرر قبل منتصف 2018 أن يتم توقيع مذكرة تفاهم مطورة مع الاتحاد الأوروبى، باعتباره المستفيد الرئيسى من الغاز الذى سيتم نقله، لكن ذلك لم يتم حتى الآن!!.. وخلال حفل إنشاء منتدى «غير رسمى»، تستضيفه مصر، وتشارك فيه «جميع دول المنطقة»، لبحث المسائل المتعلقة بالطاقة، على هامش قمة كريت، التى جمعت الرؤساء المصرى والقبرصى واليونانى 10 أكتوبر الماضى، ألمح الرئيس القبرصى أنستاسياديس، فى كلمته، إلى أن مشروع الربط الكهربائى بين أوروبا وأفريقيا عبر مصر وقبرص واليونان «يوروأفريكا إنتركونيكتور»، سيضيف رابطة أخرى فى العلاقات بين دول المنطقة (إلى جانب الخط الذى سينقل الغاز من شرق المتوسط إلى أوروبا «إيست ميد»)!!.. إذاً فقد أصبح «إيست ميد» واقعاً على الأرض.
تدقيق الملاحظة يؤكد أن الاتفاق الذى وقعته مصر مع الأطراف الأوروبية الثلاثة «قبرص، اليونان، إيطاليا» فبراير 2018، يتعلق بخط أنابيب غاز شرق المتوسط «إيست ميد»، والاتفاق الذى وقعته إسرائيل مع نفس الأطراف الثلاثة 29 نوفمبر 2018، يتعلق أيضاً بنفس الخط.. مما يؤكد تعمد الاتحاد الأوروبى التحرك فى بدائل موازية، تحسباً لأية متغيرات سياسية.. مصدر الخطورة هنا أن الاتحاد وقع الاتفاق مع إسرائيل باعتبارها شريكاً، وجارٍ إعداد صياغته القانونية لتوقيعها فبراير 2019، بينما اكتفى برعاية الاتفاق مع مصر، ولم يوقع مذكرة التفاهم المتفق عليها.. المصالح تحكم بالطبع كل أطراف اللعبة الإقليمية؛ الاتحاد الأوروبى يستهدف ضمان تعاون الدول الأربع المشاركة فى إنتاج الغاز، وتسييله، ونقله لأراضيه «قبرص، إسرائيل، مصر، اليونان»، ضماناً لاستقرار عمليات الضخ، وتحقيق عائد مجزٍ من الاستثمارات الضخمة فى الخط.. وهو يدرك أنه لو طرح فكرة توقيع اتفاق واحد يجمع هذه الدول لحالت حساسيات العلاقة مع إسرائيل لدى بعض الأطراف دون ذلك، ولو وقَّع الاتفاق مع الرباعى الذى يضم مصر، لوضعها فى حرج حال الموافقة فيما بعد على ضم إسرائيل، لذلك دخل شريكاً فى الاتفاق مع إسرائيل، وجعله اتفاقاً مفتوحاً، بما يسمح بانضمام مصر، وقصر التمويل على القطاع الخاص، لينأى بالمشروع عن التبعية لأى دولة، ويبعده عن الحساسيات والخصومات التاريخية.. معركة الغاز تشهد حالياً أشد أساليب الدبلوماسية مكراً ودهاءً، مما يعنى استحالة كسبها، دون قدر من البراجماتية، يعطى أولوية للمصالح، ويغفل الحساسيات.
خط «إيست ميد» أضحى واقعاً، باعتباره جزءاً من الشبكة الإقليمية المتنامية للغاز، التى تضم خطوط غاز شرق المتوسط «العريش - العقبة - الأردن - سوريا - إسرائيل - الأردن - قبرص - مصر»، لذلك ينبغى أن تحافظ مصر على ريادتها، حتى لو فرضت نفسها بالكياسة والحكمة، على اتفاق شركاء الإقليم، الذين تجمعهم وحدة الانتماء للحضارة الغربية قبل رابطة المصالح، خاصة أن الاتفاق يموله القطاع الخاص، ليكون كياناً خاصاً غير تابعٍ لدولة.
استعرضنا كيف يتم تجاوز عقبة الغرامات، وحاولنا سبر أغوار لعبة المسارات المزدوجة للاتفاق بشأن «إيست ميد».. تتبقى قضية واحدة هى «حرب الغاز، وتفهم أبعاد صراعات المصالح»، موعدها الجمعة المقبل إن شاء الله.
نقلا عن الوطن
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع