بقلم: فـــؤاد مطـــر
لكل جنرال... أُصير رئيساً، حكاية ذات ظروف. لم يكن الجنرال فؤاد شهاب تواقاً إلى الاستبدال بالكاكي والنجوم والانضباطية والسترة والولاء للعشرة آلاف كيلومتر مربع وبضع مئات منها، الفخامة لقباً وعيشاً واسترضاء وتسديد ديْن لدائن وضعه على رأس الدولة والتزاماً بوكلاء لذاك الدائن وردِّ الجمائل له ولهم بمواقف عصية على الإقناع. ولولا عواصف ثورة أُعد جدول أعمالها خارج البلاد ووضعت لبنان الكيان على حافة التغيير، لما كان جيء بالجنرال فؤاد شهاب قائد الجيش رئيساً ثالثاً لجمهورية لبنان المستقل.
ثم إنه لم يرث ولن يورِّث؛ فلا أبناء له كما لا أصهار. وبذلك كان غير ذي بال في مسألة تجيير الشأن إلى الابن. كما أنه في منأى عن ثعلبة الصهر يستحوذ على ما يحقق له مبتغاه... مبتغى إثر مبتغى، سياسياً المبتغى أو مالياً أو حتى كتابة حالة غير مألوفة في عالم الحُكْم والحكام وهي أن يكون الصهر بمثابة الوريث.
ولقد فرض الجنرال شهاب بعدما بات رئيساً للجمهورية احترام الرئيس عبد الناصر (بصفة كونه رئيساً للجمهورية العربية المتحدة بقطريْها المصري والسوري) له، وهو احترام لم ينله من سوريا البشَّارية سوى الجنرال الرئيس إميل لحود من خلال استقبال متميز له على الحدود ثم الجنرال ميشال عون ليس بأهمية ما جرى في لقاء الحدود وعلى تربة لبنانية - سورية مناصفة وتحت خيمة نُصبت خصيصاً وبذلك تساوى معنوياً لبنان الدولة الصُغرى بالدولة العربية الكبرى ذات القطريْن المصري والسوري زمنذاك. وعندما ارتأى عبد الناصر هذه الصيغة الأكثر من بروتوكولية فللتأكيد على احترام الخصوصية اللبنانية واستقلالية القرار لدى أهل الحُكْم. وهذا ما بدا ثابتاً خلال السنوات الست التي هي الولاية الرئاسية الوحيدة للجنرال فؤاد شهاب والذي رفض تجديدها. وغادر الرئاسة التي كانت سياسة النأي بالنفس موضع الممارسة وتلقى احترام العرب والمجتمع الدولي على السواء. وهذا كان حاضراً بين سطور البيان الذي صدر عن اجتماع الخيمة يوم 25 مارس (آذار) 1959 ودام ثلاث ساعات.
ولقد اعتبر الجنرال الرئيس فؤاد شهاب أن الرئاسة واجب وطني وليست فرصة للمغانم وأن على الحاكم صاحب السلطة الأُولى مجاراة الناس في مستوى عيشهم ومن أجْل ذلك رأيْنا أوجه تشابُه بين عيشه وعيش عبد الناصر. لم يبدِّل فؤاد شهاب مسكنه ولم ينتقل للسكن في قصر فخم. وعندما سئل ذات مرة وكانت بدأت الرحلة الأُولى من تشييد مبنى القصر الجمهوري لماذا لا يأمر بإنهاء التشييد للسكن فيه؟ كان يقول لسائليه: كيف أسكن قصوراً فخمة وهناك لبنانيون ينامون في العراء. وكما قبْل الرئاسة ثم خلالها وبعدها يدخَّن بشراهة حاله في ذلك حال عبد الناصر الذي سرَّع التدخين في إضعاف همته ثم في التأثير الحاد على قلبه وتنفسه. وكما لم يورِّث عبد الناصر أموالاً وعقارات وعاشت أرملته على معاش زوجها الذي يكفي متطلبات العيش البسيط فإن الأرملة الشهابية الفرنسية الأصل أمضت حياتها بعد رحيل الجنرال، الذي بات رئيساً سابقاً لا حزب له وإنما نموذج إدارة حُكْم وسمعة وطنية غير مرتهنة، تعيش بكل ما في العيش البسيط من معالم. ومن أجْل ذلك لم يواجه فؤاد شهاب انتفاضة شعبية كتلك التي حدثت في لبنان قبل شهر ولم تنطفئ شعلتها بالكامل ووصلت هتافات البعض إلى حد النيْل من شخص الجنرال الرئيس عون ومَن حوله وبالذات صهره الجموح الذي ليس فيه من نسيج الصهر الناصري الآخر سوى بعض أوجه الشبه لجهة شراهةٍ إلى المال. ولولا المحاولة الانقلابية التي قادها اثنان من الضباط ضد نظامه ومنيت بالإفشال لكانت حقبة السنوات الست للجنرال الرئيس فؤاد شهاب هي الأفضل في تاريخ جنرالات الحُكْم في لبنان مع ملاحظة أن ازدهار شأن ضباط «المكتب الثاني» المخابراتيين أخذت الكثير من رونق السنوات المشار إليها. ومَن يدري فقد كان هؤلاء كمجموعة أو كأفراد منها يعملون على أساس أن يرثوا الجنرال الرئيس فؤاد شهاب وينتهي الحُكْم في لبنان، إلى ما بات عليه في سوريا، انقلاب يستوجب آخر... وهكذا. وقد يتبين ذات اعترافات أو إخراج وثائق من إضبارات أن دواعي المحاولة الانقلابية كانت لخشية القوميين السوريين من أن يصل أحد عقداء العهد الشهابي إلى رئاسة الجمهورية أو إلى رئاسة الحكومة وبذلك يشل هذا أو ذاك طموحاتهم الهلا - خصيبية، بمعنى التصميم على تحقيق الهلال الخصيب الذي نجمته قبرص. يا لهذه الاستحالة.
ثمة مشاعر مشتركة لدى الجنرالات ومعهم عقداء أمكنهم بفعل الانقلاب العسكري أو الظروف الناشئة عن صراعات في المجتمع المدني السياسي تستوجب على الكاكيين اقتحام ساحة الصراع والإمساك به وأحياناً الإمساك بأولي الصراع من مدنيين. وهذه المشاعر لطالما اتّسم بها على سبيل المثال لا الحصر عهد الرئيس (الراحل) حافظ الأسد، وعهد الجنرال الرئيس إميل لحود، وبنسبة غير حادة عهد الجنرال الرئيس ميشال سليمان. وعند التأمل في سنوات النصف الأول من عهد الجنرال الرئيس ميشال عون نستنتج من عبارات يقولها ونظرات وملامح وجهه عند لقاءاته سياسيين، مدى ضيقه من هؤلاء. ومع أنه ترأس تياراً وتنازل عن الترؤس لصهره إلاَّ أن جنراليته في التعامل مع مدنيي تياره بقيت واضحة. وهنا يُجاز الافتراض أن النظرة غير الودية، وأحياناً إلى درجة الكراهية، نحو السياسيين كانت إحدى الجوامع المشتركة بينه وبين الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله الذي يرى نفسه أعلى بكثير من أي صاحب مقام سياسي.
لكن تبقى حساسية الجنرال فؤاد شهاب قبل الترؤس شعوراً وبعد الترؤس تعبيراً هي الأكثر حدة. وبقيت كمشاعر عندما أوجبت الظروف الضاغطة شعبياً والشبيهة بالظروف الراهنة التي يعيشها اللبنانيون، من قطْع طرقات وخلاف ذلك، استقالة الحكومة التي يترأسها رشيد كرامي (ابن طرابلس التي ما زالت عروس الانتفاضة التي لم وربما لن تتوقف ما دام الجنرال الرئيس ميشال عون لا يرطب الأجواء) وتشكيل حكومة استثنائية برئاسة كرامي نفسه ومعه شخصية سُنية واحدة (الحاج حسين العويني) وقطبان مارونيان فقط لا يتطاقيان: زعيم حزب الكتائب بيار الجميّل، وزعيم حزب الكتلة الوطنية ريمون إده.
ومن الطبيعي إزاء حساسية الجنرالات الرؤساء من أهل السياسة، وتصل الحساسية أحياناً إلى درجة الكراهية، أن يمعن الجنرال الرئيس تعطيلاً وإحراجاً لكل مَن يترأس الحكومة وتبخيساً بمَن يرى نفسه رقماً في قائمة المرشحين وتمييزاً للقلة من الوزراء الذين يحلِّقون في فضائه من أصل الكثرة، وبذلك لا تستقر أحوال البلاد ولا يطمئن العباد إلى مستقبل أحفادهم كونهم اعتادوا تحت ظلال أكثرية الجنرالات الرؤساء على الخيبات واعتاد الأبناء والبنات على الهجرة إلى بلاد الله الواسعة بعيداً عن الخيبات والفساد والإدارة الملتوية والأمر الواقع الموحى به. وهذا لم يحدث في زمن الجنرال الرئيس فؤاد شهاب الذي ينسب إليه زميلنا الشهابي العريق باسم الجسر رؤية تعكس ضيقه من السياسيين على نحو ما أسلْفنا ومفاهيمه لما هو واجب الدولة تجاه الشعب وحقوق الشعب لدى الدولة. ومن عبارات هذه الرؤية:
«أنا مدرك للمنطق الذي يقول بأن الحاكم أو السياسي القادر على الإصلاح هو الذي تنسجم مصلحته السياسية مع هذا الإصلاح. وأعرف مآخذ الشباب الداعين إلى قيام دولة حديثة، عليَّ، لتعاوني مع الطقم السياسي والزعماء التقليديين. وجوابي هو أنني مجبر على التعاون معهم لأنهم ما زالوا موجودين وبقوة على الساحة السياسية. وأمام عينيْ تجربة كميل شمعون غير الموفقة يوم أسقط بعض الزعماء الطائفيين والتقليديين في الانتخابات. لقد حرصتُ في كل الحكومات التي تألفت في عهدي على إدخال وجوه شابة أو ذات اختصاص أو من خارج العائلات السياسية التقليدية، تأكيداً على ضرورة تطوير وتحديث الطقم السياسي. ولكنني لا أستطيع تغيير الطقم السياسي برمته، لا سيما إذا كان الشعب ما زال ينتخبه. حتى ولو كنتُ أسلِّم مبدئياً بأن مقومات الزعامات التقليدية أو الطائفية في لبنان، تتعارض مع مقومات الدولة ومصالحها، لأغراض هذه الزعامة. ولذلك ركزتُ على الإدارات العامة، على إصلاحها وإقامة المؤسسات الحديثة لها، وتحريرها تدريجياً من الخضوع للزعامات الطائفية والسياسية وتطعيمها بالعناصر الكفوءة. إلاَّ إنني في الوقت نفسه اخترتُ من بين السياسيين الذين أرتاح للتعاون معهم، أقلهم ارتهاناً بالشارع أو علاقة بالصفقات أو غوغائية أو أقلهم مطالب شخصية أو طائفية». هذا ما كان يتطلع إليه الرئيس رفيق الحريري وبدأ خطوات على هذا الطريق قبل أن ينالوا منه تفجيراً. رحمة الله عليه.
ويبقى كنهاية لهذه الهوامش الجنرالية التأمل في أقوالٍ كريمة تفيد في علاج الروح وتهذيب النفوس مثل «ولربك فاصبر» التي وردت في الكتاب الكريم، فمن أفسدوا ونهبوا فجزاؤهم عند ربهم، و«مَن حمل علينا السلاح فليس منّا» كما يرى الرسول (صلى الله عليه وسلم). وهكذا في الإنجيل: «كونوا مكتفين بما عندكم لأنه قال لا أُهملك ولا أترُكك».
ومَن كان جنرالاً رئيساً أو سيداً صاحب قرار فعليه أن يتأمل... ويتعظ.