بقلم - فـــؤاد مطـــر
ها هي السويد الدولة الأوروبية التي طالما كان حيادها على مدى مائتي سنة بمثابة الحلم لعشرات شعوب العالم المكتوية بأنظمة وحكام متوزعي الولاءات غير متنعمين بالحياد، تقرر خلْع الثوب المنشود ارتداؤه من الشعوب المشار إليها وتصطف بدءاً من يوم الخميس 7 مارس (آذار) 2024 رقماً في حلف مسكونة دوله بالحديد والنار والتدخلات واحتكار الإرادات والتطلعات لدى أكثرية بني البشر. ولا نعتقد أن الشعب السويدي الذي تنعَّم جيلاً بعد جيل ممتن لتبديل رونق وضْعه المتواري بالوضع الأطلسي الجديد، وبتوصيف رئيس وزراء السويد أولف كريسترسون الذي كان حيادياً، ثم بات وهو يشهد في واشنطن احتفالية تسليم وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن نظيره السويدي الوثائق الرسمية لانضمام السويد المحايدة إلى الحلف الأطلسي، أو إذا جاز التوصيف انتقال السويد من نعيم الحياد إلى جحيم الناتو. فالوزير الذي كان محايداً كان مبتهجاً، ورئيس الوزراء عَدّ انضمام بلاده إلى الحلف الأطلسي «انتصاراً للحرية»، وكأنما الحياد ديكتاتورية، وأما الوزير بلينكن الذي سلَّم نظيره السويدي الوثائق الأشبه بتسليم شهادة التخرج من الجامعة، فأوجز الحدث، وكأنما هو هبة، بالقول ما معناه: «من جدّ وجد ومَن صبر نال ما تمنى». وأما عبارة بلينكن فكانت «من يصبر يجد». وأتبعها الأمين العام للحلف الأطلسي بعبارة تعكس حقيقة النوايا من وراء اصطياد السويد بعد فنلندا، بنقل الدولتيْن من حياد حقق لكليهما الاستقرار والأمان إلى أنهما أصبحتا بمثابة الفيلق السياسي - العسكري المقيد بما تقرره عميدة الحلف الولايات المتحدة.
هذا الثوب الزاهي الذي يبعث الطمأنينة في نفوس الشعب السويدي، وقبل ذلك الشعب الفنلندي الذي أطلسه التهويل الأميركي للحكومتيْن، بدافع الحماية من اجتياح روسي ذات بوتين أكثر طموحاً وأشد جسارة من فلاديمير الذي سيجدد الرئاسة لمرة ثالثة بأمل ألا تكون الأخيرة، يحلم بارتدائه الشعب اللبناني بمن في ذلك الجموع التي تكتشف أزمة بعد أزمة رئاسية وتهجيراً بعد اعتداءات إسرائيلية تكتسب صفة إنزاح جمهور المقاومة من بيوتهم بعد استهداف لمعظم البلدات، مع تدمير متدرج للبيوت على من فيها، وربما تتطور لتكون توأم الإبادة الغزاوية. والقول إن الشعب اللبناني تواق إلى الحياد فلأن التطورات التي كابد الشعب ويلاتها والاستحقاقات التي دفعها وبكامل الرضا للخيارات الثورية الفلسطينية وصلت إلى حد أن أجراس كنائس في بيروت كانت تُقرع عند مرور موكب جنازة شهيد فلسطيني... هذا في زمن «لبنان العرفاتي». كما أن لبنان الدولة، وإن ليس بكامل الرضا الشعبي، وهب الحركات الثورية الوافدة من كريم الاستضافة والتسامح ما حقق لهذه الحركات من بعثية وناصرية وقذَافية وقومية اجتماعية الكثير من مبتغاها، ومن دون أن يجني لبنان الدولة أي مكاسب سوى أنه الوطن الساحة الديمقراطية. وهذا من قبل أن يصبح ثلث لبنان، أرضاً ومجتمعاً، إيراني الهوى والدور وفق الرؤية الإيرانية للوضع في المنطقة.
هذا الوضع الذي انتهى إليه لبنان لا علاج له سوى باعتماد الحياد، الذي غيب الحديث حوله والمطالبة باعتماده سنوات عاصفة ووصايات بعضها على الوطن جغرافياً، وبعضها على الذين يتم ترئيسهم للجمهورية، واستطراداً للرئاستين الثانية والثالثة، ثم نجد البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي ينفخ في جمر الفكرة بأمل تفعيلها، وبحيث إنه عظة بعد عظة يجدد الكلام حول أهمية الحياد حلاً يؤخذ به لوضع لبنان على سكة الاستقرار. ولكن البطريرك طرح فكرة الأخذ بالحياد ومن دون التشاور مع سائر المرجعيات الروحية، وبذلك بدت مناداته باعتماد الحياد للبنان مجرد وجهة نظر المرجع الروحي لطائفة من دون سائر الطوائف. لكن مع ذلك لقيت الدعوة إصغاءات من أكثرية مكونات المجتمع اللبناني والنظر إليها على أنها صيغة حل وليست لمصلحة تثبيت حقوق طائفة من دون سائر الطوائف. ودعوة البطريرك الراعي التي تستهدف في مضمونها نقل لبنان من وطن ضاق ذرعاً بالهيمنات الخارجية والولاءات المجيرة خارج الحدود وخارج الحس الوطني، تحتاج في الحالة اللبنانية الراهنة إلى ولوج جوهر الفكرة وشموليتها وتنوع الأصوات من جانب رموز فكرية وسياسية لبنانية وعربية صديقة وحريصة على لبنان. ونتذكر في هذا الصدد ما سبق أن قاله الأمير طلال، أحد أبناء الملك عبد العزيز، لصحيفة «النهار» عدد 31 مارس 2007: «على رغم الارتباط الوثيق بين الوضع في لبنان وكل من أزمة سوريا الداخلية ومعضلة الصراع السوري - الإسرائيلي والقضية الفلسطينية، لا تزال هناك طريق يمكن ولوجها باتجاه معالجة الأزمات التي تتأثر ببعضها، فضلاً عن دور العامل المذهبي، وهو إعلان حياد لبنان، وينبغي أن تتوافق عليه جماعاته وأحزابه وطوائفه بمساعدة عربية. وقد تفيدهم في ذلك تجارب حيادية معاصرة كما في النمسا وسويسرا وغيرهما، وقد يهتدون إلى صيغة جديدة أكثر ملاءمة لهم... ». وأيضاً ما كتبه ناشر الصحيفة غسان تويني (29 أبريل «نيسان» 2008، أي بعد سنة من كلام الأمير طلال)، وبالذات قوله: «المطلوب أن نحيِّد لبنان بنظام مضمون دولياً عن العواصف والأهواء والمطامح والمطامع. أما كيف؟ ففي العالم غير البعيد نماذج يمكن أن نستلهم اختباراتها والأنظمة من سويسرا أو سواها في أوروبا. وهذا يفترض سياسة وطنية متكاملة لا تعتبر أن (قوة لبنان في ضعفه)، بل نبحث للبنان عن قوة بديلة في السياسة الخارجية، كما الدفاعية، قوامها حياد يوفر لنفسه عناصر تضمن احترامه وحمايته إيجابياً».
وأما خير ختام، من كاتب مثل حالي عايش وطنه لبنان على مدى نصف قرن أهوال الحزبية والتحزب بكل أهوائها وولاءاتها وأنواعها وحبائل مرجعياتها الخارجية العربية وغير العربية، لهذا التناول فهو: بالحياد ينجو لبنان. وبالحياد يزدهر. وبالحياد يتحقق الحلم ويسود السلام على أرضه وتغمر المحبة نفوس شعبه.