بقلم - فـــؤاد مطـــر
هكذا بعد اثنتيْن وثلاثين سنة تكاد طبيعة الأزمات الشائكة تعيد نفسها.
ماضياً في عام 1990؛ تلك الأزمة التي عصف العناد المستحكم في شخص بادئها، فكان الغزو وإلحاق الأذى البالغ بالعلاقات العربية، ثم الحرب تلت ذلك، ونقلت الدولة العربية الرقم، أي العراق، من الصدارة بجانب دول شقيقة إلى مشارف حافة الهاوية، يراوح حتى بعد ربع قرن من الحرب الدولية عليه، والاحتراب الأهلي المتدرج على أرضه من جانب أهل الوطن الواحد، مكانه من عثرة إلى عثرات.
وحاضراً في الأزمة الروسية - الأميركية ودول القارة العجوز أوروبا التي يعيشها العالم، والتي كما مثيلتها العراقية - الخليجية التي انتهت حرباً وتقليصاً ممنهجاً للسيادة الوطنية، ربما في حال رجحت كفة ذرائع العناد، وتراجعت فرصة الحكمة تتسبب في الحاضر الدولي، بالذات الأميركي - الأوروبي منه، بما هو أفدح بكثير مما حدث في الغابر الخليجي.
في المشهديْن أوجه شبه كثيرة بين بطلي الدراما السابقة وتلك التي يمكن أن تتكرر. فالرئيس صدام حسين الذي خرج بنصر نسبي من حلبة الملاكمة الحربية على مدى ثماني سنوات مع آية الله الخميني الأشد عناداً منه، بدليل رفْض المساعي الإقليمية والدولية الكثيرة لإنهاء الحرب مع العراق والجلوس إلى طاولة التفاوض، لم يحصر اهتمامه بمداواة الجرح النازف في المجتمع العراقي، وإنما ركز على توظيف هذا النصر بما يحقق له الحلم الذي طالما سعى إليه، وهو أن يكون سيد الخليج العربي في الحد الأقصى أو الشريك الثاني في هذه السيادة، وذلك بعدما فتحت الإدارة الأميركية نوافذ أمام علاقة استراتيجية مع العراق الذي يقوده، وذلك من خلال زيارات قامت بها إلى العراق شخصيات ذات شأن في المجتمع المصرفي والمالي والصناعي، وأعضاء في مجلسي النواب والشيوخ، أوحى بعضهم بإمكانية أن يكون العراق الصدامي جزءاً من الشأن الأميركي في المنطقة. ثم تأتي لحظة غلب فيها هوس الزعامة الأكثر رحابة على الحكمة، وحمل صدام حسين على القراءة من دون تروٍ في كتاب ما يعتبره «حقاً تاريخياً» في دولة الكويت سبقه إلى تقليب صفحات فيه موفور من أهل الحُكْم في العراق في الثلاثينات وما تلاها من عقود.
ظاهرياً كان الرئيس العراقي المعتز بفوائد «أم المعارك» مع إيران، يرى أن أميركا ودول أوروبا ستقف معه ما دام أوضح على الملأ النيات، فضلاً على العبارة التي تطمئن القارتيْن الأميركية والأوروبية، وهي أن عراقه لن يشرب النفط، أي بما معناه أنه لا خشية من صدام ولا مخافة على النفط، وهذا أمر يلقى الارتياح من جانب شركات النفط الأميركية والأوروبية.
في ضوء ذلك بدأ يتصور نفسه مالكاً أهم ثروة نفطية خليجية، نفط العراق ونفط الكويت باعتبار وافتراض أنه سينفذ خطوة في اتجاه استعادتها. ولم يتأخر. بدأ الحديث عن إجراءات حدثت. وأرفق الحديث بتحشيد قوات على الحدود.
بدأت غيوم الخشية من خطوة غير محسوبة تتكاثر في الأجواء السياسية للمنطقة، نشط سعاة التهدئة يتقدمهم الملك فهد بن عبد العزيز والشيخ زايد بن سلطان آل نهيان. وبذل كل منهما سعياً حميداً كان من شأن الأخذ به أن يعالج صدام حسين أعباء ما بعد الحرب، وبحيث يتحول عشرات الألوف من الجنود الذين شاركوا في الحرب مع إيران إلى قوى تنشط في مشاريع تنموية وصناعات خفيفة. وهو حل أفضل بكثير من الذي رآه، وهو أن إشغال الجزء الأكبر من الجيش العائد من الحرب مع إيران بمهمة الإطباق على دولة الكويت يفي بالغرض، ويحقق عوائد لهذه القوات من المال الكويتي، باعتبار أنه بات بعد الذي جرى، وهو إعلان استعادة الكويت «فرعاً عاد إلى الأصل»، يمكنه الحديث حول الغزو بمفردات تحقيق الإنجاز الوطني.
لم ينفع النصح من كثيرين مع أن من حق الملك فهد والشيخ زايد عليه الإصغاء إليهما والأخذ برأيهما. يكفي ما حصل عليه صدام الحرب منهما ومن مصادر أُخرى مثالاً على المؤازرة. تساقطت الرهانات والتوقعات الصدامية. وسارت الأمور في الاتجاه الأسوأ. وهو بعدما كان يُمنّي النفس بزعامة تتجاوز حدود العراق وفي ضوئها يعيد النظر في أسلوب الحُكْم ويمضي في ضوء ذلك كونه في سن فتية نسبياً (في مطلع الستينات عندما غزا الكويت) عقديْن جديديْن من الحُكْم إنما هذه المرة كواحد من الرقميْن الأكثر أهمية في خريطة الحُكْم في العالم العربي.
هذا المنحى من التفكير يتسم به تفكير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الحالم بأن يكون منتصراً جديداً، وبأن يعيد أوكرانيا ثم أُخريات باتت جمهوريات مستقلة إلى الحضن الروسي، وبحيث يقال أن الاتحاد السوفياتي الذي كان محكوماً بترويكا الرفاق الثلاثة عاد اتحاداً روسياً بصيغة الولايات المتحدة الأميركية وبرئاسة الرجل الواحد، تماماً على نحو ما يرنو إليه صدام.
ينتمي الاثنان إلى عالم فريد من نوعه. كلاهما غصنان في شجرة واحدة مسكونان بالعظمة وبالخشية والإحباط مما يمكن أن يصيبهما إذا هما اعتمدا حكمة التصرف والقبول بمَن يسدي النصح. كان صدام حسين سبّاقاً. غزا ودفع الثمن حُكْماً ثم وطناً.
وها هو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، يستنسخ السعي السعودي - الإماراتي، ويحاول السعي نفسه ولهدف مشابه، وهو إنقاذ أميركا بايدن من سقطة محرجة وإبقاء أوروبا في منأى عن عواقب الصراع في حال انتهى حرباً، وتخفيف نسبة التشتت في التوجه الأطلسي، وحفظ ماء وجه بوتين استباقاً لما قد يُقدِم عليه، وتتكرر نوازع العظمة إلى درجة يصبح اليوم البوتيني توأم البارحة الصدامية.