توقيت القاهرة المحلي 10:04:17 آخر تحديث
  مصر اليوم -

قراءة هادئة للذي جرى

  مصر اليوم -

قراءة هادئة للذي جرى

بقلم: فـــؤاد مطـــر

سيُكتب للعماد عون أنه إما أن سعة صدره استثنائية، وإما أنه لم يعتمد من خلال جماعاته أسلوب الانتقام تأديباً، أو ربما أكثر قساوة من ذلك رداً على ما قيل وما زال يقال في حقه من كلام أطلقه وما زال يطلقه محتجون أحياناً، وفي بعض المرات أصحاب أقلام تجاوزوا فيما كتبوه الخطوط الحمراء في موضوع تعامُل هؤلاء مع مقام هو الأرفع شأناً بين أصحاب المقامات.
ولقد حفلت جدران مؤسسات رسمية، من بينها الجدار الأكثر طولاً في مبنى وزارة الإعلام، بعبارات استهدفت رئيس البلاد وحاكم مصرفها وبعض المسؤولين وطالبي ترؤس الحكومة. وفي معظم ما خطه غاضبون من عبارات طغت مفردات الإساءة على ما عداها. وبهذا الأسلوب يكون هؤلاء مجرد شتَّامين وليسوا محتجين بالمعنى المحترم للاحتجاج ودواعيه. ويكفي عدم تثبيتنا لبعض هذه الكلمات الشتَّامية دليلاً على توصيفنا للذين لوَّنوا جدراناً بالشتائم بدلاً عن أن يثبِّتوا عليها المطالب. وفي ذلك يتحمل المسؤولية طيف النُخب في الحراك.
كما سيُكتب لأهل المدن ثباتهم وإصرارهم وتحمُّلهم، آملين في الوقت نفسه انضمام أهل الجبل مع أهل السهل إليهم. وهذا مع الأسف لم يحصل وبقيت الانتفاضة تصنيفاً موضوعياً هي انتفاضة أهل الساحل اللبناني أو أهل العواصم الثلاث للبنان كما المتعارف عليه كتصنيف، بمعنى أن بيروت التي هي العاصمة الرئيسية هنالك إلى جانبها صيدا كعاصمة للجنوب وطرابلس كعاصمة للشمال. ولو أن أهل الجبل وكذلك أهل السهل التحموا بأهل الساحل وبكثافة قريبة الشبه بالتي شهدناها في ميادين بيروت وصيدا وطرابلس ومناطق ساحلية على كتف العاصمة لكان تبدَّل الموقف بسرعة قياسية، وباتت المطالب قيد التنفيذ. وربما خيراً لم يحدث هذا الالتحام؛ لأن الاحتجاج في هذه الحال سيبلغ ذروة الغضب، وربما يحدث التعبير عن الغضب بصيغة انتقامية. وفي هذه الحال بدلاً عن أن تكون الانتفاضة مجرد تعبير عن واقع الحال فإنها تصبح ثأراً لواقع الحال يؤخذ بأكثر من وسيلة من رموز ارتسمت فوق رؤوسهم علامات الفساد الممقوت، والإثراء غير المبرر وغير المشروع، أي أننا في هذه الحال سنعيش حالة قريبة الشبه بالثورة الفرنسية ذات المقاصل والثورة البلشفية ذات المذابح.
هنا يستوجب الأمر توضيحاً أقرب إلى الافتراض حول عدم التحام أهل الجبل بأهل الساحل، وبذلك ينتقل الحراك من انتفاضة غلبت فيها الحماسة والشعارات العفوية على «المانفيستو» الجاهز سلفاً إلى ثورة بكل ما يحتويه فِعْلها من إصلاح للحال، وانتقام من طبقات صغيرة ألحقت الضرر بالطبقة التي تمثل أكثرية الشعب.
بداية التوضيح، أن المدن الساحلية مكتظة بسكان تفوق قدرتها على تحمُّل الإيواء الكريم لهم. كما أن نسبة أكثرية هؤلاء اقتربت من خط العوز نتيجة الظروف المالية والاقتصادية العامة. وثمة ألوف الأسر تعيش متكدسة في شقق صغيرة من بيوت منقوصة الحد الأدنى من التأهيل. كما أن حالة العوز اتسعت لأن خيار طائفة دون غيرها من سائر الطوائف للعمل المقاوم المرتبط استراتيجياً بمشروع إيراني بدأ ينعكس سلباً على العنصر الأهم في البحبوحة النسبية التي يمكن أن يعيشها اللبناني من عوائد السياحة ودوام وصول التحويلات من لبنانيين يعملون في الخارج، لكن هذا في حال كانت علاقات نظامه وحكومته جيدة، وفي الدرجة الأُولى مع دول الخليج العربي التي في تاريخها الثرائي النفطي لم تبخل ومن دون أن تكون مساعداتها مشروطة وأيضاً تكون لها ميليشيا مسلحة تستعملها في تدخلات لدى دول.
ورغم أن النظام الذي يترأسه العماد عون كان في وادي حليفه «حزب الله»، وكانت الحكومة في المقابل وفي شخص رئيسها في وادي النأي بالنفس عن التدخل في شؤون الآخرين، وهذا يرضي دول الخليج في حال كان الفعل ترجمة للقول، لكن هيمنة بجناحيْها الشيعي بكثرة والماروني بنسبة من النظام على الحكومة، وفي صيغة خروج متعمَد على ما هو متعارف عليه في موضوع بقاء كفتي الميزان على تعادلهما، وكذلك في صيغة عبارات تجريح في حق مقامات عربية لم يتم الوقوف في وجه قائليها.
ويوماً تلو آخر فاض الكيل من صولات التجريح ومن إفقاد رئيس الحكومة بعض مسؤولياته بغرض إفقاد مهابته، فكانت الانتفاضة بدءاً باستقالة واستمراراً لها. إلا أنها بعدم التحام أهل الجبل وأهل السهل فيها لن تجني ما تعكسه المطالب الأحلامية.
وعدم التحام أهل الجبل والسهل له أسبابه. لقد كانت أكثرية المشاركين في الانتفاضة هم الشكاة من الإذلال والبطالة ووطأة العيش وانعدام الحصول على الماء النظيف والكهرباء التي لا تنقطع والإنصاف الذي يتوقون إليه، والطبابة التي لا تتوفر أحياناً، ناهيكم بارتفاع الأسعار ومعها البطالة وتذبذب أسعار المحروقات. بل إن كثيرين نزلوا إلى الساحات لضيق ذات اليد.
مثل هذه الأحوال الصعبة لا يعاني إلى حد ما أهل الجبل منها؛ ذلك أن هؤلاء يعيشون بطمأنينة نسبية. كل عائلة تهيئ في أشهر الصيف مونة البيت من حبوب وخضراوات مجففة ومربيات، وخلاف ذلك من احتياجات مثل أنواع الشراب. كما أن كل بيت لديه دائماً وسلفاً ما يكفيه من البرغل والعدس والحمص والكشك، وكل بيت لديه حديقة صغيرة أو بستان، وفي هذه الحال يقطف العشبيات من بقدونس ونعناع وكزبرة وزعتر وفجل وبصل من شتلات حديقته، ويجني الثمار من أشجار بستانه، ويتناول أفراد العائلة الحليب من البقرة المقتناة عموماً في كل بيت، والبيض من الدجاجات التي تفقيسها مزدهر دائماً، كما يجفف من الخضراوات على أنواعها ما يغنيه عن الحاجة إلى الشراء كما هي حال أكثرية سكان مدن الساحل... أي باختصار، إن نسبة الوجع المعيشي عنده ليست قاسية كما هي لدى أكثر سكان مدن الساحل، وبذلك يرى أن لا موجب للنزول إلى الميادين للاعتراض، أو فلنقل يتكاسل ولديه قدرة على تخزين الغضب وتأجيل التعبير عنه. وهذا لا يعني أن الجبلي والسهلي تقاعسا، لكنهما على الأرجح يتأملان ويراقبان. وإذا شعرا بأن إنسانيتهما ونخوتهما أقوى من ولائهما الحزبي أو الحركي أو التياري، فإنهما لا بد سيلتحمان بفاعلية وليس فقط بمشاركات رمزية بعلبكية وجنوبية وبقاعية. وفي هذه الحال لا يعود رئيس البلاد يمارس كل هذا الذي تعاطاه مع الأزمة وجولات الانتفاضة على النحو الذي مارسه وكان الدافع إلى أن جدران مراكز رسمية امتلأت بإساءات ضد رئيس العهد، وكتابات تنادي بتنحيه.
وفي أي حال، ما زال هنالك نصف ولاية رئاسية يستطيع من يملك أحقية دستورية تمضية أيامه فيها أن يعوِّض الشعب اللبناني الذي ينام على ضيم ويصحو على خوف.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

قراءة هادئة للذي جرى قراءة هادئة للذي جرى



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمان ـ مصر اليوم

GMT 09:09 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

تجديد جذّري في إطلالات نجوى كرم يثير الجدل والإعجاب
  مصر اليوم - تجديد جذّري في إطلالات نجوى كرم يثير الجدل والإعجاب

GMT 08:58 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة
  مصر اليوم - وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة

GMT 23:13 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

بايدن يعلن التوصل إلى إتفاق وقف النار بين لبنان وإسرائيل
  مصر اليوم - بايدن يعلن التوصل إلى إتفاق وقف النار بين لبنان وإسرائيل

GMT 08:53 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 04:48 2019 الإثنين ,08 إبريل / نيسان

أصالة تحيى حفلا في السعودية للمرة الثانية

GMT 06:40 2018 الأحد ,23 كانون الأول / ديسمبر

محشي البصل على الطريقة السعودية

GMT 04:29 2018 الخميس ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

روجينا تكشّف حقيقة مشاركتها في الجزء الثالث من "كلبش"

GMT 19:36 2018 الأحد ,22 إبريل / نيسان

تقنية الفيديو تنصف إيكاردي نجم إنتر ميلان

GMT 13:02 2018 الإثنين ,02 إبريل / نيسان

علماء يكشفون «حقائق مذهلة» عن السلاحف البحرية

GMT 20:26 2018 السبت ,31 آذار/ مارس

إيران توقف “تليجرام” لدواع أمنية
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon