بقلم: فـــؤاد مطـــر
في لحظات من الاستغراق في متابعة الأحوال في بعض دول الأمة، ينتهي التأمل إلى واقع مرير يتلخص في أن الله - سبحانه وتعالى - أعطى، وأن البعض من شعوب الأمة أساء، وأحياناً إلى درجة الكفر بالنعمة، واستبدال الهوس العقدي أو المذهبي المغلف بغطاء حزبي بلذة العيش الهني والاستقرار المستديم.
الأمثلة على الحالات التي نشير إليها كثيرة؛ لكن هنالك أربعة ينطبق عليها الكفر بالنعمة: أولها وأكثرها إيلاماً للنفس الحالة اللبنانية. فلقد منّ المولى - عز وجل - على لبنان الصغير مساحة بكل ما يشكل عوائد له تجعل مواطنيه لا يحتاجون إلى طلب النجدة والمساعدة. فالطبيعة ثروة، والموقع أخاذ، والأنهر منسابة في كل أصقاعه، من حدوده مع فلسطين الصابرة على الضيم إلى أقصى حدوده مع سوريا المُضامة من حُكْم أذاق الرعية مُر الصبر. ما بين البحر والوديان عشرات الينابيع والشلالات. والجبال متوجة على مدى ستة أشهر من السنة بأكاليل من الثلج الأبيض.
والبساتين غنَّاء، ما إن ينتهي موسم الموز والبطيخ ثم موسم البرتقال حتى يبدأ موسم العنب، وتتباهى الكروم بالعناقيد على أنواعها وألوانها، كما تباهي أشجار التفاح والكرز، وما ينتسب إليهما من ثمار بألوانها وطعمها ورائحة زهورها. وأما الأرض فمعطاء، ونتاجها من الحبوب والحشائش والبقوليات من أجود نوع. وحتى لا يقال عن صاحب الأرض اللبناني إنه لا يجدد ولا يطور ولا يتابع ما يجري في عالم الزراعة لدى دول عبْر بحره الأبيض المتوسط، فإنه أدخل الفاكهة الآسيوية إلى هذه الأرض، وهكذا بدت أشجار المانغو والجوافة وتفاح الورد تجاور أشجار العناب واللوز والتين والزيتون والصنوبر، المتجاورة بدورها مع أصناف من شجيرات الياسمين والورد على أنواعه، تضفي إلى جانب الحدائق المزروعة شتولاً من الفل والقرنفل والغاردينيا مزيداً من بهاء الطبيعة. وخصَّ المولى لبنان بميزة الوطن الذي يعيش فيه الجميع على اختلاف دياناتهم جنباً إلى جنب، والتباهي أمام الغير بأن مثل هذا التعايش هو رمز السلام الذي بشَّر به الأنبياء ليسود على الأرض وتسود معه المحبة بين الناس.
كانت نِعم المولى كثيرة. وما خص به لبنان تتمناه شعوب كثيرة، كما أن هنالك دولاً تغبط هذا الوطن الصغير على نعمة الله بكل معالمها وخيراتها عليه.
عوض أن يحمد اللبناني ويشكر، بدأ ومن خلال وباء التعصب والتحزب والاستزلام للغريب، والاستقواء على القريب، يمعن كفراً بهذه النعمة، وبدأ بعض رموز قيادات حزبية يقتادون الوطن مكبلاً إلى المجهول. وسنة تلو سنة أثمر الكفر بالنعمة الإلهية. بات الوطن ملعباً، مقوداً من متلاعبين، بينما قطاعات عريضة من الشعب في حالة تغييب. فقد لبنان التميز. بعدما كان يعطي صار يستعطي. وبعدما كان أمثولة في خواص كثيرة بات مقعداً، مكانه واحد من كراسي الشعوب المقعدة في الأمة، وصار الكلام على الزوال يتردد على ألْسنة كُثر بين الذين هم من الأدرى بواقع الحال.
ما يقال عن لبنان يقال عن الوطن الجار سوريا، التي انقلب سحرها المصطنع وسوء تقدير أُولي الأمر فيها للعواقب على كبير السحرة الذي يروم من زعامات مسحورة في لبنان المساعدة في تثبيت سلطانه، بينما أتى الغريب الإيراني والتركي والروسي والأميركي والإسرائيلي يجرف خاصية العنفوان لدى الممسك ببقايا شرعية وطنية. ويصعب على المرء إيجاد تفسير للحاكم الذي أتاح المجال أمام الدببة لكي تأتي إلى كرمه، ثم انتهى به الأمر يقرر الآخرون اعتماده رئيساً أو استبداله، وتنتهي معه سوريا التي كانت مثل لبنان تحظى بنعمة المولى - عز وجل - لا ينقصها سوء الحاكم الذي يصغي ويقود بالتعاون مع الشعب ورضاه والنأي عن الاستبداد، ثم ها هي في ملعب متنوع اللاعبين المتلاعبين يتقاذفونها كما لو أنها كرة، وأن كلاً منهم يروم وضع القبضة عليها وتثبيت القدم فيها، بعدما كان في زمن سالف يحلم بهواها. وأما هذا التباهي بالممانعة والصمود والمواجهة فلا ترجمة له على الواقع الذي يتلخص في أن الدكتور بشار الأسد أُعطي رئاسة لم يكن عند حُسْن ظنها به، كما أنه في هذا يتشارك مع الشعب السوري، المُصادَر من قوى خارجية، في الجحود وإلى درجة الكفر بنعمة من رب العالمين، يجني ثمارها خامنئي الإيراني، وبوتين الروسي، وإردوغان العثماني، ونتنياهو الإسرائيلي. وأما العشرة ملايين من السوريين المهجَّرين والمهجورين فهؤلاء حالهم من حال الألوف من اللبنانيين السائرين على دروب متفرعة من الطريق الأساس المعبد إيرانياً وروسياً.
ويصطف الشعب الليبي وجاره الشعب التونسي، إلى جانب الشعب اللبناني والشعب السوري وسلطانه البشاري، في استعذاب الكفر بنعمة الله، خص بها الليبيين والتوانسة. الليبيون لأنهم في بعض منهم اختاروا التتريك بديلاً للعروبة، وبدأوا يهتفون كما يهتف تركيَّاهم السراج وباشاغا بلغة الضاد للعثماني المعاصر الذي يبحث في سجلات الأحوال الشخصية عمن هم من أمهات تركيات، ليؤكد الأحقية في أوطان، ويرُد بذلك على كيد الأوروبيين وبالذات فرنسا التي اقتحم رئيسها ماكرون السيرك اللبناني يريد علاجاً للبنان الفرنكوفوني، بينما أسلاف الرئيس ماكرون أوصدوا الباب أمام إردوغان لكي يكون فرنكوفونياً عضواً في الاتحاد الأوروبي، فكان أن استل سيف العثمانية يرد به؛ حيث هنالك آثار أقدام تركية في حقبة العشرينات من قرن مضى.
لقد منَّ الله على الشعب الليبي بثروة النفط التي إذا هم لم ينقسموا ويشرعوا أبواب ليبيا العربية أمام متطلعين إلى الاستئثار بالمتيسر من تلك الثروة، لكانت ليبيا في أحسن حال، وصاحبة دور وقرار، وليست في انتظار مبادرة من هنا ومحاولة وساطة من هناك، لجمع أهل الوطن الذي قد ينتهي متناثراً، بينما الثروة التي خص الله بها شعب ليبيا غدت في عهدة آخرين، ويصبح الليبيون في وضع الباحث عن نجدة مالية تقيه شر العوز.
وعند التأمل في الذي يحدث في تونس، وكيف أن هذا الوطن الذي يملك من نعمة الله عليه المواصفات التي عليها توأمه الفينيقي لبنان، غارق في مناكفات حزبية وصراعات سياسية تعطل مكانته كبلد طالما كانت السياحة الأوروبية إليه بسبب موقعه الجغرافي مصدر ثراء له؛ حيث ساهمت عوائد السياحة تلك في تطوير اقتصاده وتنمية عمرانه، إلى أن دخل الوسواس الخناس في الرأس، وتغلغل كما الحال في لبنان في النفوس، وبات الكيان على نحو ما أسلفنا عرضة للاهتزاز فالضياع. وبدل أن تقاد تونس بكل سلاسة من حكومة تكون النعمة التي خصها الله بها، ومن خلالها يتعيَّش الناس ولا يضطرون إلى أن يصبحوا كما الملايين من السوريين لاجئين، فإن تونس تغرق لبضعة أشهر في خضم معوقات حزبية، كما تكراراً حال لبنان، فتتعطل الأحوال.
ويا أيها الذين خصهم الله بنعمة رفقاً منه بالخلْق، سواء في لبنان أو تونس أو سوريا أو ليبيا، وكذلك السودان، وكلها دول يكاد الكفر بنعمة الله عليها أن يزلزلها، ليتكم تحمدون وتشكرون وبالتالي تهتدون. ففي الحمد والشكر والهداية تدوم النعم، وفي المماحكات الحزبية والصراعات السياسية قد ينام المرء في هذه الأقطار وغيرها على طمأنينة، ويصحو على لا وطن، ولا خير، ولا نعمة.