بقلم: فـــؤاد مطـــر
بصرف النظر عما إذا كان الملل سيدق أبوابه على عشرات الألوف الذين أمضوا الأسابيع الثلاثة في ساحات العاصمة الأُولى بيروت والعاصمتيْن طرابلس الشمال وصيدا الجنوب اللتيْن أشبه بالذراعيْن لأم الشرائع، يرفعون الصوت عالياً وكمَن يؤدي الصلاة ممسكين بالعَلَم مرفرفاً والمطلَب محقاً والروح فياضة بحب الوطن المفترى عليه من بعض بني قومه أهل السياسة والأحزاب الذين آثروا الغريب على وطن الأجداد والآباء...
وبصرف النظر عما إذا كان البعض بدأ يشعر باليأس لأنه شارك في مسارات الاحتجاج مرتضياً حرمان الأبناء والبنات من الدراسة وكذلك كساد الكثير من مواسمهم والكثير الكثير من تجارتهم، ومع ذلك فإن المردود المأمول لم يتحقق ولو بنسبة تعوض بعض الشيء تعب الساعات الطويلة من الوقوف في ساحات الاحتجاج...
وبصرف النظر عما إذا كان أهل الحُكْم بكافة مفاصله لم يكونوا عند حُسْن أداء الواجب فلا نزلوا إلى الساحات كما سائر المحتجين يُسألون ويجيبون ويشدون من عضد هؤلاء الذين لولاهم لما صار هذا عضواً في البرلمان ولا صار ذاك وزيراً في الحكومة. وهكذا تصرَّف هؤلاء بعزوفهم عن تفقُّد الذين اختاروهم، كأنهم كخصوم. وعندما يشعر المرابطون في الساحات بهذه اللامبالاة، فهذا يؤسس إلى نفور في النفوس لا بد لمفاعيله من الظهور ذات مناسبة...
وبصرف النظر عما إذا كان رأس الدولة لم ينظر في أمر الرعية على نحو ما أقسم اليمين على تنفيذه ويُخشى أن يكون آثر عدم الإصغاء، أو أنه أصغى لكن الارتباك حال دون أن يمارس دور الراعي المسؤول عن أحوال رعيته...
وبصرف النظر عما إذا كانت الطقوس والقوانين الدستورية لا تلبي ترجمة المطالب بالسرعة التي أطلقها المحتجون المحتاجون، وهنالك في الدهاليز والكواليس أفراد في استطاعتهم تعطيل التنفيذ أو المماطلة إلى أحيان من الزمن...
بصرف النظر عن هذا الذي من باب الاحتمال ربما يحدث فإن الذي عاشه لبنان على مدى ثلاثة أسابيع كان حالة الشوق بنوعية غير مألوفة من جانب اللبناني لعَلَمه وحالة تكفير عن ذنب ترْك حالة الولاء بأعلى درجاته للوطن في غربة عن بني القوم. كما كان أمثولة برسم أطياف تراجعت لبنانيتها أمام هوى أغراب انعكس على أصول التوافق وموجبات التعايش.
كما أن الذي عاشه لبنان على مدى ثلاثة أسابيع كان قرعاً قوياً في جرس التقريع والتنبيه وضرورة الفرز بين الصالح والطالح... وقبْل أن يرمي الثاني الوطن وأهله بكل مساوئه وأطماعه ومشاريعه غير الخيِّرة.
وبالأهمية نفسها فإن الذي عاشه لبنان على مدى ثلاثة أسابيع لن يكون صفحة تُطوى من كتاب. ربما يتطلب تدارُك الأمور الخلود إلى اختصار الاحتجاجات وربما تقليصها، إلاّ أن ذلك لن يكون أكثر من استراحة متظاهر تماماً مثل استراحة المحارب عندما تكون موجبات المعركة غير اليسير إنجازها بالسرعة المأمولة. استراحة الجندي الأشبه بالقيلولة الجهادية التي لا بد منها وإن طالت المواجهة. كذلك بالنسبة إلى الذي يعيشه لبنان المحتج لا بد من جولات بعد استراحات. وعموماً فإن الإلفة حدثت بين الساحة ومَن عليها من الاحتجاجيين، وبالتالي فإن العودة إلى الساحات في حال المماطلة في تنفيذ المطالب جاهزة في جوهر الإرادة.
ويبقى أن الأسابيع الثلاثة التي عاشها لبنان والمرشحة للمعاودة بقوة رداً على التلكؤ، لم تكن فقط مجرد ملامح ثورة وإنما كانت تأسيساً لثروة تراثية وفصلاً في الكتاب الذي يؤرخ لبنان المتجدد. ثروة كتلك التي يتباهى بها الفرنسيون والأميركان والإسبان والمصريون وغيرهم. ومثل هذه الثورة - الثروة كانت حُلْماً وباتت حقيقة.
وقد يهمك أيضًا:
تأملات في المشهد السوداني
نسمة فرح عروبي