بقلم - فـــؤاد مطـــر
هذه الحدة في العبارات الغاضبة التي تصدر في ساعات الشدة أو التحدي من جانب بعض رجال الدين في إيران، وبالذات من كبير القوم المرشد الحاكم آية الله علي خامنئي، تجعلني أستحضر من الذاكرة مناسبة شاء الواجب الصحافي أن أعرف أحد رموزها عن قرب، ويستوقفني مع الاستحضار هذا كيف أن هناك نموذجيْن من رجال الدين إذا هم انتقلوا إلى كرسي السُلطة السياسية المطْلقة من كرسي الإمامة أو المرجعية المذهبية مسلمين كانوا أو مسيحيين، إما يتقمصون شخصية متجبرة لا تنسجم وجوهر العقيدة الدينية، وإما يحرصون على ذلك الجوهر ويغادرون كرسي السُلطة إلى رحاب الأجواء الروحية حامدين شاكرين متعبدين مرفقين ذلك بطلب المغفرة عن خطوات اتخذوها.
في الستينات حظيتُ بلقاء المرجعية الدينية الأُولى التي انتقلت في رحاب الكنيسة إلى ديوان السُلطة السياسية. كنتُ أحد كوكبة من زملاء المهنة في الصحف اللبنانية التي بلغت زمنذاك ذروة ازدهار لم يسبق أن حظيت به الصحافة العربية من قبل، توجهنا إلى نيقوسيا لمقابلة المطران مكاريوس بعدما بات رئيساً للجزيرة وأول رجل دين في الجمهوريات الدولية يتبوأ هذا المنصب. ولقد أفادنا اللقاء الذي تم إلى جانب الإحاطة بظروف تسلم المطران الآتي من كوكب روحاني أرثوذكسي إلى كوكب أرضي حافل بالصراعات السياسية والتي في نهاية المطاف جعلت قبرص اثنتيْن.
ما سمعناه من المطران - الرئيس كان مفردات نصوحاً في معظمها حول أن يسود السلام بين الناس، ويصغي المسؤول كبير الشأن كان أو ركناً من أركان الدولة إلى الناس، وأن يكون حب الوطن رديفاً لطاعة الله الذي وهب. وأفاض في الحديث عن بعض محطات في حياته طفلاً لعائلة تعمل في الزراعة وطالباً في الثالثة عشرة من عمره في دير، فمتابعة بعد المرحلة الثانوية دراسة اللاهوت في إحدى جامعات أثينا، وبعدما سيم كاهناً التحق بكلية اللاهوت في جامعة بوسطن (الولايات المتحدة) لينتهي به المقام وقد بات أسقفاً ثم كبيراً لأساقفة الكنيسة القبرصية الأرثوذكسية في الجزيرة التي تحتلها قوات بريطانية، رمزاً لمقاومة سلمية غاندية الجوهر تدعو إلى أن تكون هنالك وحدة بين قبرص واليونان. وبقي على حَراكه هذا إلى أن تم اختيار ميخائيل خرستو دولوس موسكوس (وهذا اسمه العائلي) ليكون الرئيس الأول للجزيرة عام 1955 التي باتت مستقلة وموضع مساندة معنوية لافتة من مصر الناصرية، وارتياح مكاريوس إلى سياسة عبد الناصر عدم الانحياز وتعامله المنزه عن التعصب مع مصر القبطية الأرثوذكسية وبحكم مشاعر المصريين الإسكندريين بوجه خاص إزاء اليونانيين، ومنهم القبارصة الذين سكنوا الإسكندرية عقوداً من الزمن وشاركوا في بهجتها وازدهار السياحة وموسم الاصطياف فيها. كما تطرق إلى ما يجري في دول المنطقة في جانب من الحديث مع الصحافيين الآتين من لبنان الذي ازدهرت فيه لبعض الزمن الحزبي مناداة الحزب السوري القومي باعتبار قبرص نجمة للهلال الخصيب. تلاشت الدعوة وبات الحزب أحزاباً. وأما قبرص فتحولت إلى واحد من الملاذات لأطياف من اللبنانيين - مسلمين ومسيحيين - الهاجرين وطنهم في سنوات الحرب في السبعينات والثمانينات بين بعض ضد بعض ثم في السنوات الجهنمية بخلطتها السورية - الإيرانية وخيمتها المارونية الجنرالية التي أثبتت قدرتها على تعطيل الدور الماروني التقليدي في موضوع رئاسة لبنان، دون حرص على البلاد وعدم التحسس بأحوال العباد مسيحيين ومسلمين، شيعة وسنة، وآخرين على السواء...
يطول تدوين ما سمعناه من المطران مكاريوس، هذا اسمه منذ أن بات أسقفاً وهو في الخامسة والثلاثين من العمر، ثم بعدما بات في الثانية والأربعين وفي كامل حيويته ونضاله التوحيدي أول رئيس لجزيرة قبرص التي استقلت عام 1955، ومثلما هو أول رجل دين يتبوأ منصب رئاسة دولة، فإنه أول أيضاً في إحاطة نفسه بالأخيار الذين إذا نصحوا أخلصوا، وأول في اعتماد الاستفتاء الشعبي علاجاً للأزمات، خصوصاً إذا استحكمت وتزايدت تعقيداً، كما أنه أول في مواجهة سلمية وحكيمة مع عملية انقلابية استهدفت رئاسته التي بلغت 22 سنة فغادر بنصح النصحاء المخلصين وبكامل الاختيار الجزيرة مطمئناً إلى أن رئاسته التي تجاوزت العقدين متروكة للإرادة الشعبية. وكان في تقديره هذا حكيماً؛ ذلك أن أجواء تلك الإرادة أوجبت عودة مكاريوسها بعد غربة، وبقاءه في سدة الرئاسة إلى أن أسلم الروح في الثالث من أغسطس (آب) 1977 عن أربعة وستين عاماً، وهي سن شبابية نسبياً. ولقد غادر تاركاً في مشهد الحُكْم والحكام أمثولة أن رجل الدين إذا حكم عليه أن يحكم بالعدل، وأن يعزز شأن الوطن وينشر الطمأنينة في النفوس والعدالة في التعامل وعدم الاستغراق في أحلام مشاريع التدخل في ديار الآخرين والتباهي بمشروع تصدير الثورة التي أصلاً شحُبت خضرتها واكتسبت احمراراً يولد ضحايا وأحزاناً، واعتماد المسألة الدينية وسيلة طمأنينة للعباد وليست أداة ذات حد مذهبي وحد سلاحي صاروخي ومسيراتي واستعراضات عسكرية في وضح النهار وانخراط مجندين في حروب تخاض دون وجه حق في دول أُخرى، والإشادة بقطاعات أمنية محددة مشهود من جانبه لها بالشراسة إزاء مَن يعارضون ذكوراً كانوا أو أناساً، والولاء إلى أبعد الحدود لشخصه.
ويبقى أن مناسبة هذا الاستحضار لرئيس ديني النشأة والتطويب، وسياسي الممارسة بحكمة ومغادرة كريمة بعد عقديْن من التربع رئيساً على دولة تسبح آمنة فوق بحر، أننا نعيش منذ ثلاثة عقود تداعيات تجربة حُكم ديني أمعن اهتزازاً في أربع كيانات عربية وخارج مفاهيم العلاقة التقليدية بمعنى عدم تجزئة كل من هذه الكيانات. وهذه الكيانات هي العراق الذي رحل آية الله الخميني الذي له ثارات على ثلث العراقيين رداً على جرحيْن: جُرح من جانب صدام حسين وهو نائب الرئيس لإبعاده خارج العراق تجاوباً مع رغبة الشاه محمد رضا بهلوي وهو الإبعاد الذي أوصله إلى ملاذه المؤقت فرنسا محاطاً برعاية المراهَن عليهم، من جانب الحُكْم الفرنسي كورقة لعلاقات مستقبلية. وأما الجرح الثاني فيتصل بخروج إيران مهزومة ومن هنا جاءت مقولة إمامها إنه يوافق على وقْف القتال كمن يتجرع السم. وإلى الجرحيْن ثالث ما زال غائراً يتمثل بالتصميم على وضْع اليد على العراق بكامله. وهذا حتى إشعار آخر على درجة من الاستحالة وبمثل استحالة وضْع اليد على سائر الكيانات المثبتة أسماؤها في خريطة طريق المشروع الإيراني.
ويبقى من هذه المقارنة بين رمزيْن أوصلتهما الظروف من رحاب المؤسسة الدينية كلاً من مذهبه إلى الجلوس على كرسي رئاسة الدولة، مع اختلاف دور مكاريوس المطران في قبرص وخامنئي المرشد في إيران، تسجيل نقطة نظام إزاء خامنئي لاعتباره الصحوة الشعبية المتدرجة المراحل مجرد أعمال شريرة بدل استيعاب غضب الغاضبين بالحسني، وإضفاء كثير التفهم على مطالبهم ومشاعرهم. وهو في تصنيفه للتظاهرات العفوية بأنها عمل شرير يساوي بين هذه الأعمال وبين مثيلتها التي حدثت من جانب التيار الذي قاده الخميني وورثه خامنئي، وجعلت عرش الطاووس يهتز، كما اهتزاز الثورات عندما لا تستوعب مطالب الشعوب وتطلعاتها.
ومثل هذا الاستيعاب حققه المطران مكاريوس في قبرص فأخذ بذلك مكاناً لائقاً في تاريخ الحُكْم والحكام في العالم. وأما المرشد خامنئي فأمامه الفرصة لكي يقلب الصفحة وبذلك يرضي ربه ويكرم شعب إيران ويترك دول «المجموعة الإيرانية» في العالم العربي تداوي بمهارة أبنائها جراح تدخلات زرعت في النفوس بذوراً من العتب والغضب.
والله القوي والرافعُ والمُعِز.