بقلم - فـــؤاد مطـــر
أفرز حجم المواجهة المستمرة في السودان الملتبسة الدوافع حتى إلى حين بين الجنراليْن المتحالفيْن بدايةً المتحاربيْن لاحقاً عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو (حميدتي)، محطات وأمثولات ينطبق عليها القول «رب ضارة نافعة»، فقد عكست المواجهات النوايا الشخصية لكليهما بعدما كان الانطباع الذي ساد أنهما بانحيازهما إلى ثورة الاحتجاج المدني ضد نظام البشير يضحيان لمصلحة الشعب. وأما بالنسبة إلى الطيفيْن المدني والعسكري على حد سواء، فإن ما حصل نتيجة التشبث بالرأي والعناد إلى جانب الشراهة عند سرد المطالب، وكذلك التسويف وعدم الالتزام بالوعد من هذا الطيف مرة ومن ذاك مرات، ينطبق عليه ما أوجزه في الزمن الغابر الشاعر بالقول: «رب يوم بكيت منه... فلما صرت في غيره بكيت عليه».
كان عدم الإصغاء إلى تمنيات عربية ودولية وإقليمية بالجنوح إلى التهدئة عوض مواصلة القصف والتسبب في قتلى وجرحى وتدمير، هو أبرز المحطات، وبالذات بعدما بات جلياً للعيان أن هنالك ضحايا بفعل قذائف من طيف هذا الجنرال ضد طيف الجنرال الآخر، وكما لو أن كلاً منهما ليس سودانياً ابناً عن أب عن جد، وكما لو أن الذي انتهى جثة على طريق ليس من أبناء الوطن الواحد، مع أن مجرد كشف هذه الحقيقة المؤلمة من جانب فضائيات سجلت مشاهد لها، يوجب على كل من الجنراليْن ما دام مسلماً أن يوقف مغامرته العبثية، ولا يترك جثثاً تتعفن تحت وطأة شمس حارقة وصلت درجة الحرارة إلى ما دون الأربعين بقليل. كما يستوجب الأخذ باستراحة محارب أن عشرات المراكز الصحية والمشافي باتت عاجزة عن مداواة الجرحى ثم أقفل البعض الباب أمام مصابين كثيرين تجمعوا أمام مباني هذه المشافي أملاً بالمداواة.
الدواعي الموجبة للأخذ بالهدنة تلو الهدنة كثيرة، وهي تعكس ثقة المقاتل بنفسه لمن يأخذ بها، في حين أن التهاون في شأنها يعني أن الطرفين في خشية أن يوقِع الواحد منهما بالآخر، وهذه ليست من شيم الجنرالات التي تليق الأوسمة بصدورهم والنجوم على أكتافهم.
كثيرة هي المحطات المأساوية التي عصفت بالسودان، منذ أن ضاقت الصدور قبل أربع سنوات بنظام بدأ متأثراً إلى حد بتجربة الإمام الخميني في إيران، واعتمد «إمامه» الشيخ الدكتور حسن الترابي على ضباط في المؤسسة العسكرية لتثبيت دعائم هذا النظام وترئيس عمر البشير الذي تخلص مبكراً من عبء الوصاية الترابية عليه. واعتمد الجنرال البشير صفة «الإنقاذ» طوال سنوات ترؤسه نافضاً باليد العسكرية القابضة الترابية الاستراتيجية، وفي ظنه أنه بـ«الإنقاذ» شعاراً دائماً للحكم يدوم رئيساً مدنياً عسكرياً في الحكم بأكثر مما دام السابقان (الراحلان) جعفر نميري بعد إبراهيم عبود: جنرالان اعتبر كل منهما الطيف السياسي المدني ورقة في شجرة النظام، وليس شريكاً يستأنس برأيه ويناصفه القرار. وتلك شرعة الجنرالات عموماً عندما يحكمون مستأثرين. في أي حال جاء الاختبار البرهاني - الحميدتي بمثابة أمثولة من مصلحة الطيف المدني السياسي الأخذ بها، فلا يبقى هذا التباغض فالتنافر فالاقتتال على النحو الذي افترض كثيرون أنه سيكون مجرد جولة اختبار للشأن، فإذا به يتحول إلى احتراب دام أياماً، وليس واضحاً في الأفق كيف ستكون النهاية. كما ليس واضحاً بعد أمر القطبة الإسرائيلية المخفية... والمخيفة في هذا الذي حدث وما زال.
وأما أبرز الأمثولات فهي أن صراع الجنراليْن غير المبرر وغير المطالبيْن أصلاً بخوضه من جانب الشعب السوداني أفرغ السودان في أسبوعيْن من عشرات الألوف من أشقاء وأجانب لم نكن نعتقد بأن هذا البلد العزيز على بني أمَّتيْه بات مقصد مئات الألوف العرب من المحيط إلى الخليج ومقصد عشرات الألوف من شرق العالم وغربه، وصولاً إلى روسيا والصين والهند قدِموا إليه من أجْل تطويره وتعويضه، بالتالي انفصالاً حققه نظام البشير «الإنقاذي» حيث بات هنالك سودانان؛ أحدهما في الجنوب استقر بعد صراع قبلي، وآخر من شأن الاستقرار تثبيت تماسكه وعدم بعثرة سائر المناطق... وبالذات غربه الذي لا يستقر على حال.
ومن الأمثولات التي تعكس مدى أهمية الشهامة في تطييب خواطر الخائفين النازحين هي تلك التي شاهدنا عبْر الفضائيات نماذج منها، وتتمثل في ملامح الفرح على وجوه الألوف من النازحين ومن كل الجنسيات الذين نقلتهم بواخر سعودية من ميناء مدينة بورتسودان، ووجدوا استقبالاً في ميناء جدة، خففت من الهلع في النفوس تلك الوفادة الطيبة المقرونة بعبارة الحمد الله على السلامة، وبالوردة لكل نازح مع قطعة حلوى واستراحة لبعض الوقت في فندق؛ تمهيداً للمغادرة جواً كل إلى وطنه. ولقد اعتدنا على الميناء الجوي (مطار جدة) أن يستقبل في مواسم الحج والعمرة عشرات الألوف من البشر. ثم هذا الميناء البحري للمدينة إلى جانب الميناء الجوي، يكتسبان صفة ميناءيْ الأمن والطمأنينة للنازحين.
ولقد كنا نتمنى ألا تصل الأمور لدى الجنراليْن إلى ما وصلت إليه، فلا يرتبط اسماهما وصفتاهما العسكريتان بأنهما السبب في إفراغ السودان، ليس فقط من أجانب وأشقاء يساعدون في تنميته، وإنما أيضاً من عشرات الألوف من بني قومه بدليل هذا النزوح الألوفي لسودانيين، إلى جانب أشقائهم المصريين العاملين في السودان، والترحيب بهم في وطنهم الثاني مصر المحروسة.
يصعب القول عما إذا كانت الجراح ستندمل ويأخذ الجنرالان الحالمان بالسلطة التي ذاق كل منهما طعمها على مدى سنين بالحكمة القائلة: «ما دامت لغيرك حتى تدوم لك».
كما يصعب الافتراض بأن الذين نزحوا سيعودون. فالعودة رهن بالثقة التي أصابتها شظايا الرصاصات الجنرالية. ونقول ذلك في ضوء تجربة قاسية عاشها اللبنانيون قبل نصف قرن دام فيه الاحتراب المشابه لجزئية من الاحتراب السوداني الراهن بضع سنوات، وتسبب في أن النزوح حدث لعشرات الألوف. وها هو لبنان ضائع حتى الآن منذ ذلك الاحتراب وذلك النزوح... تماماً كضياع سوريا وضياع ليبيا وضياع العراق وضياع إخواننا الفلسطينيين في «وطنيْهم» أو «دولتيْهم» غزة ورام الله، في انتظار النزوح المعاكس بدءاً بالسودان أي التعامل مع سلامة الوطن على أنها القضية، ومع سلامة المواطن على أنها هبة أرادها المولى لعباده وليس لأحد الحق التلاعب بها... وبالذات إذا كان جنرالاً تفكيره مغيَّب وإصبعه على الزناد.
لو كان الطيب صالح ما زال بيننا يتراوى كل منا في رحاب مكاتب «الشركة السعودية للأبحاث والتسويق» في لندن، وعلى هامش لقاءاتنا في مكتبي في مجلة «التضامن» - المجلة التي كنت أصدرها هناك.إن الطيب لو كان لم يرحل مأسوفاً عليه إنساناً راقياً وكاتباً روائياً متميزاً لكان رفد دنيا الثقافة العربية برواية جديدة بتسمية «موسم النزوح من السودان» إلى سابقتها «موسم الهجرة إلى الشمال» يستوحيها مما حدث... بل ربما لو صودِف أنه كان في زيارة إلى الأهل والأحباب في السودان عند حدوث مواجهة الجنراليْن، لكان هو الآخر أحد النازحين على متن باخرة سعودية في الطريق إلى مدينة جدة التي لها في خاطره ما للعاصمة الرياض من ذكريات وجدانية عميقة.والله الحَكَم والعدل.