بقلم - فـــؤاد مطـــر
أخْذاً بقاعدة التعويض عن أفدح الضرر السياسي والعائلي، فإن الطرف المصاب بالضرر إلى درجة الفاجعة أحق بالمنصب الذي خسرتْه العائلة بفعل إجرامي. وعملاً بهذه القاعدة فإن النائب في البرلمان اللبناني ميشال معوض أحق من غيره في أن يكون رئيساً للجمهورية اللبنانية بعد انصراف رئيسها في اليوم الأخير من هذا الشهر الغازي، باعتبار أن المكسب الوحيد الذي سيناله اللبنانيون بعد الآن وبموجب اتفاق تم إبرامه برعاية أميركية بدل أن تكون الأمم المتحدة هي الراعي والضامن لتطبيع غير مكتمل النمو، أن الغاز سيتواصل نفثاً من تحت مياه البحر مع كثير الأمل بأن يأتي يوم ويبدأ استخراج الغاز وكذلك النفط من باطن أرض في منطقة سهل البقاع ومناطق أُخرى. والعِلْم عند الله.
ليس اللبنانيون الآن في كنه سر هذا التوافق اللبناني - الإسرائيلي على مسألة غازية. فقد كثرت الادعاءات ومعها الافتراضات كما كانت هنالك حالة ابتهاج من جانب رئيس العهد المنصرف ميشال عون الذي كان جنرالاً بالفعل في موضوع الكنز الغازي المأمول وكان توقيعه على وثيقة الاتفاق «الجنرال عون» وليس «الرئيس عون»، وأنه كثير الاعتزاز بأن تاريخ لبنان في سنواته العونية سيتضمن ما معناه أن ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل وأياً كان سيناريو الترسيم تفاوضاً وتوقيعاً ومشاورات سبقت ولا أي توضيح عنها، كان بحذاقة إدارة الرئيس عون ودبلوماسية الحليف المقاوم الذي دعا إلى طي الصفحة الجهادية بالسلاح والمسيَّرات، وهذا يمحو ما سبق اقترافه من تعطيل لمصالح العباد ووضع البلاد على مشارف أسحق الهاويات.
أحقية ميشال معوض لا ترتبط بحضوره غير المستفز كما حضور آخر أو آخرين. ولا بكفاءته وسمعته وثقافته، وإنما لأنه الصورة الحية الناطقة للأب الذي كانت الآمال معقودة عليه بأن رئاسته للجمهورية ستحقق «اتفاق الطائف» استقراراً وتُبعد عنه محاولات افتراس كالتي تكاثرت على مدى ست سنوات لم يصد العهد العوني الغوائل عنها. وكانت كثرة التنظير السلبي والافتراء على هذا الاتفاق ستتزايد، لولا أن رئيس البرلمان نبيه بري قال في اللحظة الأخيرة أو في لحظة الاستدراك إنه، كما الرئيس السلف السيد حسين الحسيني، يرى ضرورة التمسك «اتفاق الطائف» وليكف المشاغبون على هذا الاتفاق عن حراكهم الذي ينتج أجواء شعبوية إنما لا يحقق زعامة وطنية.
ولكم كان أمراً بالغ الأهمية لو أن الذي قاله الرئيس بري لدرء الخطر يلحق بالاتفاق من خلال تصريح برسم الطرف الذي رعى الاتفاق، جاء في بيان صادر عن الثنائي الشيعي، وبذلك يفتح مثل هكذا بيان ثغرة في جدار زادت صلابته وبات لا بد من تعامل معه قريب الشبه بالتعامل التاريخي مع جدار برلين.
القول بأحقية الابن ميشال معوض للترؤس بعدما أصاب إرهاب الدولة إمكانية بناء لبنان مستقر وقوي، وذلك باغتيال الوالد رينيه معوض تفجيراً، بدا كمَن هو تدشين للتعامل تباعاً رأساً بعد رأس مع الأخيار من رموز العمل السياسي، سبقتْه محاولة شقت طريقها بسلاسة ملحوظة وتمثلت في أن الدية (أي التعويضات) التي كانت بعد تفجير مماثل للرئيس الواعد بشير الجميل جاءت من نصيب شقيقه أمين الذي ترأس البلاد في زمن عاصف حاول جاهداً تخفيف حدة إعصاراته على أنواعها. وإذاً فإذا جرى ترئيس النائب ميشال معوض، لا يعود الأمر على درجة من الاستغراب.
في تاريخ الرئاسات السابقة لم يحدث أن كانت هنالك فواجع تستوجب أن يرث الابن أو الابنة والدها الذي قضى صريع تفجير. الرئيس الأول بشارة الخوري لم يورِّث أحد الابنيْن. والرئيس الثاني كميل شمعون لم يهنأ بما فيه الكفاية لكي يفكر في التوريث. والرئيس الثالث فؤاد شهاب لم يرزقه الله ابناً وهو حتى أبى أن يجدد الرئاسة. والرئيس الرابع شارل حلو رحل ولا ذرية له لكي يفكر في التوريث أو بتبني رئيس. والرئيس الخامس سليمان فرنجية فجع بما هو الأكثر إيلاماً على النفس وهو أن يقضي ولي عهده مقتولاً. ثم يربي الحفيد لكي يكون الذي سيشفي الجرح المعنوي في نفس الجد. ولقد سعى الحفيد أشطر سعي وكان للرئاسة أن تحط في رحابه لولا أنه أسير توازنات لا ترحم. والرئيس السادس إلياس سركيس أحب الرئاسة بتسلمها وعندما أمسك بمفاتيح دهاليزها بات يرى أن كرسي رئاسة البنك المركزي كانت أكثر طمأنينة لنفس جالسها من كرسي رئاسة الجمهورية وغادر وهو الذي حاله لا زوجة ولا بنين أو بنات معتل الصحة ثم شاء القدر أن يقضي خارج الوطن، فيما أمين الجميل يصبح ثامنهم مترئساً بالتوافق إنما من دون أن يواصل من حيث مضمون القسم الذي أداه الشقيق الذي بعدما كان الرئيس السابع الذي عليه الكم الكبير من الآمال، لكن برنامج مقصلة الرؤوس الواعدة شملته ولم يبق من بشير الجميل إلّا الأحلام بوطن لن تحققه الصيغة الطوائفية، ونماذج من البشيريين يحاول كل منهم الإيحاء أنه بشير الثاني، ولكنه لبنان الذي بات غير ما في البال... وفي التطلعات والأحلام.
لم يُكتب للرئيس الواعد رينيه معوض أن يكون التاسع الذي على يديه تتساوى كفتا المعادلة الطوائفية حيث أردوه تفجيراً، ليتسلم الرئاسة العاشرة إلياس الهراوي حليفاً لسوريا الأسدية كما حال الرئيس الحادي عشر الجنرال إميل لحود. وأما الرئيس ميشال سليمان فإنه تنبه قبل فوات الأوان، وقرر من أجل أن يكون منسجماً مع حسه السيادي والتوافقي الانصراف محمود السيرة حامداً شاكراً.. وطبعاً لا تفكير في أي توريث.
مضى الرئيس الثالث عشر ميشال عون من دون أن ينعم بما كان يتطلع إليه وهو التمديد كالذي ناله إلياس الهراوي وإميل لحود. ولكن سوريا الأسدية التي حققت للاثنين تمديداً هي غير سوريا التي باتت في حال لا تُحسد عليه ولا أوراق تلعبها أكثر من الاحتفاظ بالورقة الإيرانية زائداً الورقة الروسية مضمومة إليهما ورقة «حماس» ونصيب من ورقة «حزب الله»... هذا إلى ما قبل الترسيم وطيف ثروة الغاز بعد أحيان، ومعهما قدرة رفض مطلب اللحظة الأخيرة (لترسيم الحدود بحراً وبراً) يتقدم به الرئيس ميشال عون المنصرف ويرفضه الرئيس الصامد بشَّار الأسد.
كثيرون هم من تكون الرئاسة دية تعويض لهم عما فقدوا. هنالك السفيرة المتألقة تريسي شمعون التي فقدت والدها داني الذي كان قرة عين الجد كميل، وهنالك كاروس إده أو أحد الإديين الذين لهم في ذمة لبنان الكثير لأنهم لم ييسروا أمر ترئيس عميدهم ريمون الذي كان خير مَن يترأس وانتهى محزوناً في غربة فرنسية أشبه بغربة الجنرال عون الذي وظفها لاحقاً فترأس.
وحتى اللحظة ما قبل الأخيرة من انقضاء الفترة الزمنية للرئاسة (منتصف ليل 31 أكتوبر 2022) كانت الساحات السياسية حافلة بالتكهنات وبالأسماء والمناوبات حول مَن سيتولى. وهذا أمر يتفرد به لبنان من دون غيره من الدول الرئاسية، حيث إن كل ماروني ذي شأن أو ثروة أو انتماء لطرف خارجي ولو على حساب وطنه، يعتبر نفسه الأكثر أحقية بمنصب رئاسة الجمهورية.
حمى الله هذا الوطن الذي جعلوه أشبه بلعبة وهم المتلاعبون. وأما الشعب فصريع التحزب إلى أن يهديه الله إلى صواب اختيار الحياد صيغة دستورية للوطن تنشر الطمأنينة على الجميع.